أوهام الرواية التاريخية - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
الأحد 12 مايو 2024 1:34 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أوهام الرواية التاريخية

نشر فى : السبت 25 فبراير 2023 - 9:30 م | آخر تحديث : السبت 25 فبراير 2023 - 9:30 م
فى ظنى أن تفكيك المصطلح جزء محورى من فكرة النقد، وفرض عين فى كل عصر وأوان، ليس بهدف الهدم والإزالة بالضرورة، ولكن بمنطق التأمل والاختبار، ومحاولة وضع النقاط على الحروف.

ينشأ المصطلح عادة نتيجة رؤية ووجهة نظر ترسّخت، واستحسنها الكثيرون، فاستخدمت وانتشرت، وصارت حقيقة لها سطوة وقدرة ونفوذ، بينما تنشأ فى واقع التطبيق ظواهر ومستجدات، فيزيد الالتباس والضباب. هنا لا مفر من إعادة قراءة المصطلح، وتأمل دلالاته من جديد.

خذ مثلا مصطلح «الرواية التاريخية»، الذى يحتاج إلى قراءة مختلفة، فى ظل رواج هذه النوعية من النصوص السردية، لأسباب شتى، لعل أبرزها أن التاريخ بأحداثه وشخوصه مادة سردية ثرية، بل إن التاريخ يبدو كما لو كان سردا دراميا مثيرا، وكأنه قصة كتبت من الواقع مباشرة، بمنهج منضبط، يعتمد على قدرة المؤرخ على السرد.

يجمع المصطلح كما ترى بين جناحين: «الرواية» ومحورها الخيال، و«التاريخ» ومحوره ما نثبت أنه حقيقة، أى ما وقع فعلا.

ورغم أن المؤرخ يسرد ويحكى أيضا، إلا أنه ملتزم بالبحث عن الحقيقة بالمعنى الأخلاقى، أى مطابقة الخبر للواقع، بينما لا يلتزم الروائى إلا بقانونه الخاص، وهو يبحث عن الحقيقة بالمعنى الجمالى، مستهدفا تشكيل مادته (مهما كان مصدرها واقعا وخيالا وأحلاما) ، ليصنع منها كلا متماسكا، يتسق شكله مع مضمونه.

وبينما يعدّ تدخل الخيال فى عمل المؤرخ اختلاقا وجريمة، فإن الخيال يزين الكتابة والأفلام، ويضيف إليهما، ويبعث الحياة فى التفاصيل. وبينما يقال إن المؤرخ يتحرى الموضوعية النسبية، فلا يجب أن يترك وثيقة أو دراسة تتعلق بموضوعه، حتى لو كانت ضد موقفه، فإن الرواية والفيلم هما سرد ذاتى ومنحاز تماما، من الألف إلى الياء.

لدينا إذن مصطلح يحاول أن يزاوج بين نقيضين: سرد حر، وسرد محدد بمنهج ووثيقة، راوٍ منحاز مطلبه الجمال، ومؤرخ يريد أن يكون موضوعيا، ومطلبه الأساسى البحث عن الحقيقة.

بسبب هذا التناقض بين طرفى المصطلح حدث لبسٌ وغموض، فاعتقد البعض أن الرواية تستدعى التاريخ لكى تخدمه، بينما لا يمكن أن نفهم هذا الاستدعاء إلا بمنطق أن يكون التاريخ فى خدمة الفن، أو بمعنى أدق بأن يكون التاريخ مجرد «مادة ملهمة» للعمل الفنى.

لا يعقل أن يكون المعنى هو أن يحلّ كاتب الرواية، أو صاحب الفيلم السينمائى فى التاريخ، لأن ذلك يتطلب أن يركب آلة الزمن، ليكون جزءا من التاريخ الذى يصنع روايته أو فيلمه عنه، بينما ما يحدث هو العكس، أى إن التاريخ هو الذى يحلّ فى الفنان أو كاتب الرواية، فيستلهمه، ويأخذ منه «بالقدر الذى يريد»، لكى يصنع «حقيقته الجمالية»، كعمل متسق فى ذاته، وبقانونه الخاص، وتعبيرا عن رؤية كاتبه المنحازة تماما.

أى إننا أمام «حقيقة فنية موازية كلية»، رغم أن مادتها «الحقيقة التاريخية».

يترتب على ذلك ما هو أهم، فكتابة رواية مستلهمة من التاريخ، أو عمل فيلم أحداثه وملابسه وطقوسه تاريخية، لا يجعل من العمل تاريخا، لأنه بالضرورة عمل معاصر بذات ورؤية صاحبه، بالقصد أو بعدم القصد.

التاريخى حلّ فى الكاتب المعاصر، فصار منتجا راهنا، بل إن ذلك ينطبق أيضا على الدراسات التاريخية، فما حدث فى الماضى يعاد البحث فيه بمنهج ومنطق حديث، ووفق ثقافة وتعليم ورؤية ونظرة مؤرخ، لا يستطيع أن يخرج من جلد معاصرته، ولا يمكنه أن يرى بغير عين زمنه وأوانه.

فلسفة كتابة ودراسة واستعادة ما وقع فى الماضى مرتبطة أصلا بمنطق الاعتبار والاستفادة الراهنة، أى إنها ذاكرة الإنسانية المستعادة، لتصبح مثل كشاف إضاءة ينير الطريق حاضرا ومستقبلا، وأهمية التاريخ نفسه ترتبط بالحاجة إليه هنا والآن ومستقبلا، وكأنه الأمس الذى يخدم اليوم والغد.

لو اتفقنا أن التاريخ يخدم الفن والكتابة، وليس العكس أبدا، وإذا وافقنا على أن استلهام التاريخ ليس فعلا ماضيا، ولكنه فعل معاصر بالضرورة، فإن الرواية والفيلم لا يكونان تاريخيان إلا بمنطق التصنيف الشكلى فحسب، أى بوصف مادتهما باعتبارها قادمة من كتب التاريخ ليس إلا، ولكنها فى الحقيقة أعمال معاصرة بحكم الرؤية والطريقة والتكنيك، تماما مثل كل الروايات والأفلام التى تكون مادتها أحداثا راهنة، أو أحداثا مستقبلية، فالكتب والأفلام التى تتناول خيالا مستقبليا ليست إلا أعمالا معاصرة، لأننا أيضا لا نستطيع أن نحل فى المستقبل، وإنما يمكن فقط أن نرى الغد بمنظار اليوم.

محصلة كل ذلك أنه من العبث أن نحاسب الفنان أو الكاتب بالمعيار نفسه الذى نحاسب به المؤرخ.
إذا أخطأ مؤرخ فى واقعة تاريخية فهو بالتأكيد خطأ تاريخى، ولكن إذا أخطا الفنان أو الكاتب فى تفصيلة تاريخية فهو خطأ فنى، أى إن العمل لم يستطع أن يحقق «قانونه الفنى» بأن «يوهمك بالتاريخ».

هذا خلل فنى يعادل بالضبط أن يخطئ ممثل فى نطق الحوار باللهجة الصعيدية، فى عمل قانونه الإيهام بأننا فى الصعيد.

هنا فارق شاسع وخطير: التاريخ جوهره «الحقيقة»، والفن جوهره «الإيهام».

المؤرخ الذى يغيّر وقائع حدثت بالفعل نسميه مزورا، وليس ذلك هو الحال فى حكمنا على عمل فنى يستدعى التاريخ ليسقطه سياسيّا على الحاضر.

المثال الأشهر هو بالطبع فيلم «الناصر صلاح الدين»، الذى يبدو عملا تاريخيّا فى الملابس والأدوات، بينما هو فيلمٌ سياسى يروج للقومية العربية، ويجعل من عبدالناصر امتدادا لتجربة «الناصر» صلاح الدين، فى التصدى للاستعمار الاستيطانى فى فلسطين.

لقد تمت التضحية «بالحقيقة التاريخية» فى سبيل «حقيقة فنية» لكاتبٍ وفنان معاصر.

هكذا يجب أن نفهم المصطلح، وهكذا يجب أن نقرأ الفن والأدب، إذا ارتديا ثوب التاريخ.

التاريخ فى كتب التاريخ، فإذا ارتدى ثوب الفن والأدب صار «جنسا آخر بالكليّة»، يخضع لقانون مختلف، حتى لو التزم الكاتب والفنان بكل الوقائع والأحداث.
محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات