في ذكرى مصطفى النحاس (3) - علاء الحديدي - بوابة الشروق
الجمعة 3 مايو 2024 11:14 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

في ذكرى مصطفى النحاس (3)

نشر فى : الإثنين 24 يونيو 2019 - 10:15 م | آخر تحديث : الإثنين 24 يونيو 2019 - 10:15 م

سيذكر التاريخ دوما للنحاس أنه هو الذى قام بإلغاء معاهدة عام ١٩٣٦ بين مصر وبريطانيا فى اكتوبر من عام ١٩٥١ وبعد خمسة عشر عاما من قيامه بالتوقيع عليها. ورغم أن العديد من المؤرخين يتوقفون عند أحداث معينة وتأثيرها على تطور الحركة السياسية المصرية، مثل حادث ٤ فبراير ١٩٤٢، أو حريق القاهرة فى ٢٦ يناير ١٩٥٢، إلا أن إلغاء هذه المعاهدة بالذات كان يعنى انتهاء حقبة من العمل السياسى فى نضال الشعب المصرى من أجل الاستقلال، وبداية حقبة جديدة لم يدرك معها النحاس ومن معه تبعاتها ونتائجها.

أولى هذه النتائج، إن الإعلان عن إلغاء هذه المعاهدة وبالشكل الذى تم به وبعد فشل المفاوضات أكثر من مرة مع الجانب البريطانى، كان يعنى اعترافا ضمنيا بفشل النهج الذى اتبعه النحاس ومن معه من قادة حزب الوفد فى حل القضية الوطنية. هذا النهج الذى كان يقوم على المقاومة السلمية من خلال المظاهرات والإضراب عن العمل وبعض الاغتيالات المحدودة فى وقت معين من أجل الضغط على الجانب البريطانى للقبول بالتفاوض معها ( أى حزب الوفد) بهدف الحصول على الاستقلال. وهو النهج الذى اتبعته النخبة الوطنية المصرية منذ ثورة ١٩١٩، والتى قادها المحامون من الأفندية أصحاب العقلية القانونية. ولم يكن هذا المنهج، أى المقاومة السلمية والمفاوضات، قاصرا على الحركة الوطنية المصرية، بل إننا نرى الهند تحت زعامة غاندى ونهرو وحزب المؤتمر تتبنى أيضا ذات المنهج والأسلوب، وإن كان طبعا وبما يتلاءم مع الشخصية الهندية وظروف الهند فى ذلك الوقت. ولكن ما كان يميز مصر هو نخبتها القانونية التى رأت شكل النضال فى صورة المحامى، (أى قيادة حزب الوفد ممثلة فى زعيمها) الذى يدافع عن موكله (وهو الشعب المصرى) فى ساحة المحكمة (ساحة المفاوضات). ولا يعنى ما تقدم أن النحاس ومن حوله من النخبة القانونية كانوا من السذاجة أن يتصوروا أن المعركة الوطنية كانت بمثل هذه البساطة أو المثالية، فقد كان هناك إدراك حقيقى لموازين القوة وسوء نية الجانب البريطانى. ولكن كان يتم التعامل مع كل هذه الحقائق من منظور المنهج القانونى فى العمل السياسى، وهو ما وصل إلى طريق مسدود وثبت عدم جدواه.

ثانى هذه النتائج، كان إطلاق قوى جديدة من عقالها وبتداعيات غير محسوبة. فقد كان النحاس يهدف من إلغاء المعاهدة لاستثارة الجماهير ودفعها للعمل والنضال ضد بريطانيا، وربما أيضا إحياء شكل من أشكال النضال التى عرفتها البلاد والنحاس وجيله ممن عاصروا ثورة ١٩١٩. ولكن الظروف والأوضاع التى كانت سائدة فى مصر فى بداية الخمسينيات من القرن الماضى كانت جد مختلفة عن الظروف والأوضاع التى كانت موجودة أثناء ثورة ١٩١٩. وكان أهم هذه الاختلافات وأبرزها ما شهده المجتمع المصرى من توسع غير مسبوق فى حجم ونطاق الطبقة الوسطى المصرية بعد الحرب العالمية الثانية. وهو ما تمثل فى نمو العديد من الفئات والقوى الاجتماعية كالأطباء والمهندسين والمدرسين وأصحاب رءوس الأموال الصغيرة ورجال الأعمال والتجار وغيرهم. وقد انعكس هذا التغيير الاجتماعى الذى بدأ قبل الحرب العالمية الثانية ولكنه تمدد وتنامى مع الحرب العالمية فى ظهور أحزاب وحركات سياسية مثل الحزب الاشتراكى (مصر الفتاة سابقا) والإخوان المسلمين والتنظيمات الشيوعية، والذين كان لهم رؤى وإيديولوجيات مغايرة عما درجت عليه الأحزاب والقوى التقليدية وعلى رأسها حزب الوفد. بل إن هذه القوى والحركات السياسية أصبحت تنادى بسياسات وبرامج تناوئ حزب الوفد وتتناقض معه. هذا، ويضاف لما سبق ما أصاب حزب الوفد ذاته من انشقاقات تحت زعامة النحاس بخروج أقرب حلفائه إليه من الأفندية المحامين بدءا من أحمد ماهر والنقراشى وانتهاء بمكرم عبيد، وهم الذين كانوا العامل الرئيسى فى نجاح انتخابه زعيما لحزب الوفد. وعليه لم يصبح حزب الوفد وحده هو حزب الطبقة الوسطى، ولم يعد النحاس زعيم الطبقة الوسطى كما كان من قبل، وخاصة مع عودة كبار ملاك الأراضى الزراعية مثل فؤاد سراج الدين إلى صدارة قيادة الوفد. وكان ذلك واضحا فى الانتخابات الأخيرة التى خاضها حزب الوفد وحصل على نصف أصوات من شاركوا فيها والذين كانوا بدورهم لا يتعدون نصف عدد المسجلين فى قوائم الانتخابات. وإذا نظرنا إلى الأرقام فى القاهرة والإسكندرية، فإن الأرقام تصبح أكثر تواضعا.

وبناء على النتيجتين السابقتين كانت النتيجة الثالثة، وهى المعضلة التى وجد النحاس نفسه فيها مع قطاع متزايد من الرأى العام لم يعد يؤمن بجدوى المفاوضات والمقاومة السلمية ويطالب بنهج جديد لم تتضح معالمه بشكل واضح بعد، وبين قيادات تقليدية لم تخرج عن إطار نهجها القانونى الذى درجت عليه طوال الفترة السابقة. وكانت هذه القيادات التقليدية ترفض حتى فكرة الاتصال بالاتحاد السوفيتى لكسب تأييده للقضية المصرية حين يتم عرضها على مجلس الأمن. وللحق والتاريخ أيضا، فقد رفض النحاس الاشتراك فى الحرب الكورية التى بدأت عام ١٩٥٠ وتبنت مصر سياسة الحياد، وهو ما يحسب للنحاس ويذكر له. وقد أخذت الأحداث منحى متصاعدا حين بدأت مجموعات من الشباب فى تبنى نهج الكفاح المسلح والقيام بأعمال فدائية ضد القوات البريطانية الموجودة فى منطقة القناة. الأمر الذى أطلق سلسلة من الأفعال وردود الأفعال لم تعرف الحكومة الوفدية كيفية التعامل معها. وكان أبرز هذه الأفعال محاصرة القوات البريطانية لمبنى الشرطة فى الاسماعيلية يوم ٢٥ يناير ١٩٥٢وإنذارهم بتسليم سلاحهم وما تبع ذلك من إطلاق النار عليهم بعد أن رفضوا الاستسلام واستشهاد ٥٠ جنديا. ولنا أن نتخيل مشاعر المصريين حين وصلت أنباء هذه المذبحة التى ارتكبتها القوات البريطانية فى حق الشرطة المصرية فى اليوم التالى إلى القاهرة من مشاعر غضب والرغبة فى الإنتقام ضد كل ما هو انجليزى فيما عرف بعد ذلك باسم حريق القاهرة فى ٢٦ يناير ١٩٥٢.

وكما رأينا، فقد خرجت الأحداث عن السيطرة، ولم يكن حريق القاهرة يمثل فقط نهاية حكومة الوفد، بعد أن انتهزها القصر فرصة للتخلص من النحاس وحكومته، ولكنها كانت تعنى أيضا نهاية حقبة من النضال الوطنى بأسلوب المقاومة السلمية والمفاوضات بقيادة النخبة القانونية التى تصدرت العمل السياسى فى ذلك الوقت. وكأن النحاس بإلغائه المعاهدة كان يمهد لما هو قادم، وقد أتى هذا القادم بالفعل فى ٢٣ يوليو ١٩٥٢حين تحركت مجموعة من الشباب من خارج النخبة السياسية القانونية التقليدية لتتسلم قيادة الدولة. وبهذا يكون النحاس قد أكمل دوره فى تاريخ نضال الشعب المصرى الذى يمتد عبر سلسلة من الحلقات المتصلة بعضها ببعض كان النحاس وبلا شك أحد أهم حلقاتها.

التعليقات