ترقب.. - داليا شمس - بوابة الشروق
الأربعاء 8 مايو 2024 5:33 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ترقب..

نشر فى : السبت 21 أكتوبر 2023 - 9:10 م | آخر تحديث : الإثنين 23 أكتوبر 2023 - 11:16 ص
من الشباك، تسللت عتمة نهاية النهار. سمعوا أصوات أنواع مختلفة من الطائرات فانطلقوا إلى النوافذ والشرفات لمحاولة فهم ما يحدث. شاهدوا الآثار الملونة التى تركتها فى سماء القاهرة، ورفعوا كاميرات هواتفهم المحمولة لتسجيل لحظة قد تكون غير اعتيادية. انتظروا وصول أسراب أخرى، وظلوا يراقبون وجهتها، تلمسا لمعرفة أسباب تحليقها فوق رءوسهم. هل هو استعراض؟ تمرين؟ مناورات؟ أم إشارة لأمر ما لا يعلمونه؟. أصابهم هوس برصد الاحتمالات الكثيرة، كما قال محمود درويش فى وصف الانتظار.
كانت ضمن من وقفوا مترقبين على الشرفات، تطوى غضبا بركانيا بداخلها، غضب يتورم فى قلبها ويعلق وجودها بصمت. أصبحت شديدة الحساسية لأى ضجيج بسبب التطورات الأخيرة فى المنطقة. وخلال المساء، تسلق صوت الفضائيات إلى غرفتها مقتحما عزلتها، وصلتها علامات التصعيد وعبارات تدل على احتقان الأوضاع بدرجة لم تعشها من قبل، لكن عرفها من عاصروا الحروب. مرت من أمام عينيها صور بشعة وهى تتابع أخبار من يترقبون الموت كل ليلة حين تدوى صافرات الإنذار. فى ظلام دامس ينتظرون فى رعب ما يعرفون أنه آتٍ لا محالة. «كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة». استحضرت مقولة النفرى الشهيرة التى طالما رددها صديق عزيز. سكتت وتعثر الكلام.
●●●
على الشاشات رأت آخرين ينتظرون فتح المعبر لإيصال المساعدات الإنسانية، كمن يترقب ظهور الهلال. هى لعبة الانتظار التقليدية التى تناولها المحللون فى مؤلفاتهم، خاصة عالم الاجتماع الأرجنتينى خافيير أوييرو الذى تحدث عن «سياسة الانتظار» فى بلاده كطريقة للإخضاع وإظهار القوة، من خلال كتابه الصادر عام 2012 «دولة الصبورين» (Patients of the State). شرح أن الطرف الذى يطلب إلى الناس التحلى بالصبر والانتظار يحاول إثبات التفوق والسيطرة، يبلغهم بمعاودة الكرة فى اليوم التالى، وربما مرة ثالثة ورابعة حتى يسمح لهم بالحصول على ما يريدون، ولا يكون فى وسعهم سوى إقناعه لأنهم بحاجة إليه، وأحيانا ينخفض سقف توقعاتهم ويرضون بالقليل. بخبراتهم السابقة يعلمون أنها طريقته فى القمع والتحكم، لكن لا يرغبون فى استثارة عناده وتعنته.. تماما كما يحدث مع صغار موظفى الدولة الذين يقولون للمواطن «فوت علينا بكرة يا سيد»، وهو يحاول ألا يثير حنقهم فيمر على مكاتبهم لاحقا، لأنه يعتازهم ويسعى إلى بلوغ المرام.
لا تنطبق علينا جميعا قواعد الانتظار نفسها، فهناك استثناءات بالطبع، حتى ونحن نحجز موعدا مع الطبيب أو ننهى معاملة حكومية، البعض تكون له الأولوية لحسابات اجتماعية وطبقية، فالمال والسلطة قد يوفران الكثير من الوقت. إذا لم تملكهما، فعليك أن تذوق مرارة الانتظار. تجلس وتتحمل وتعاود المحاولة، مثلما فعل الفلسطينيون لسنوات فى معابر سلطات الاحتلال بشكل منتظم، إذ اعتادوا أن يخضعوا للتفتيش الدقيق أمام «المحسوم»، وهى كلمة عبرية تعنى الحاجز الأمنى، دارج استخدامها.
●●●
بين لحظة سكوت وأخرى، جَلَسَت تتأمل حال النبتة التى ذبلت أوراقها فجأة. توقعت موتها منذ أيام، حين مالت تدريجيا إلى الاصفرار. لكن منظر أطفال غزة وهم ينفضون الغبار عن قططهم وببغاواتهم بعد أن نجحوا فى إنقاذها ولم يستسلموا لتركها تحت الأنقاض، جعلها تقرر أن تجرب كل الطرق لكى تختبر إذا ما تبقى فيها حياة. تخلصت من الأغصان الجافة ومن الأجزاء ذات البقع البنية، وأخذت ترويها يوما بعد يوم، وتترقب أى علامات تدل على التحسن. عندما حكت الساق بأظافرها ظهرت طبقة خضراء رقيقة، أعطتها أملا أنه فى إمكانها أن تمنحها فرصة أخرى، فهى أيضا تحب الحياة وتتشبث بها. تنظيفها من الفروع التى أصابها العطب ساعدها على اجتياز المحنة، لم تعد تناضل هباءً لنجدة ما فسد، فارتاحت ونجت.
تفكر فى من يريد بيتا أو وطنا يغمره الهدوء. ليس فى استطاعة البشر أن يعيشوا والسيف مصلت على رقابهم، أن يستقروا فى منازل آيلة للسقوط ويناموا مطمئنين ويتسموا بالعقلانية... خياراتهم تتقلص وكل الدلالات تقول إن شيئا مريعا سيلحق بهم لا محالة. يترقبون تدهور الأوضاع وهدم بيوتهم القديمة ليحل مكانهم سكان جدد، والجميع يقول لهم: لأنكم تحبون الحياة، يجب أن تموتوا. اذهبوا وموتوا... ولا تنتظروا شيئا.
وهى ما زالت تجلس بالقرب من النبتة الصغيرة، تأتيها أصوات اكتست بالذعر. تصلها فى ساعات متأخرة من الليل كلمات فتاة لا تعرفها تدعى «بيان»، تتابعها على وسائل التواصل الاجتماعى، تقول: «أنا بيان، عشت 27 سنة فى مدينتى الجميلة غزة، واليوم قد يكون آخر يوم إلى هون. أنا وأهلى ما رح نعيد غلطة نكبة 1948، وما رح نغادر بيتنا باتجاه الجنوب. كلنا فخر بفلسطينيتنا لآخر نفس. ما بسامح العالم من شرقه إلى غربه على اللى بيصير فينا، وبتمنى صورنا تلاحقكم لآخر عمركم».
صارت لا تستطيع النوم كل ليلة دون أن تدخل على حساب «بيان» لتعرف إذا ما كانت على قيد الحياة، أم انضمت لهؤلاء الأطفال الذين كتبوا وصيتهم وتركوا لنا قصاصات ورق يعددون فيها ثرواتهم الصغيرة: 80 شيكلا، نصفهم لماما وخمسة لكل أخ وأخت، والملابس لبنات العم، والأحذية للفقراء،... يرقبون الموت ويرقبهم، والبقية تأتى.
التعليقات