«جيوفانى دروجو» ووهم الانتظار القاتل! - إيهاب الملاح - بوابة الشروق
الأربعاء 8 مايو 2024 2:14 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«جيوفانى دروجو» ووهم الانتظار القاتل!

نشر فى : السبت 21 أكتوبر 2023 - 9:15 م | آخر تحديث : السبت 21 أكتوبر 2023 - 9:15 م
ــ 1 ــ
ماذا يحدث لو أنك قررت فجأة أن شيئًا كبيرًا وعظيمًا حتمى الحدوث، وأنك يجب أن تكون جاهزًا ومستعدًا لهذا الحدث وبكامل الاستعداد والتأهب.. تنتظر ثم تنتظر ويمضى العمر وأنت تنتظر! إلى أن تصل إلى تخوم اليأس من هذا المجهول الذى لا يجىء! وفى اللحظة التى تتخلى فيها عن تأهبك وجاهزيتك التى لازمتك طوال عمر بأكمله يدهمك هذا الذى انتظرته لكن بعد أن فقدت استعدادك وتخليت عن جاهزيتك لتجد نفسك فى لحظة انهيار وضعف وتخل غير مسبوقة!
ــ 2 ــ
تأتى رواية «صحراء التتار» للروائى الإيطالى الفذ دينو بوتزاتى بعذوبتها الناعمة وشجاها المبكى لتلمس فينا ضعفنا الإنسانى الذى لا يفارقنا ولا يتركنا ويظل يلازمنا حتى الموت! إنها رواية «الانتظار الإنسانى» و«ترقب المجهول» وفناء العمر فى البحث عن ما قد يأتى أو قد لا يأتى!.
رواية الترقب والقلق والتوتر الإنسانى الدفين، والانصياع الكامل لما نظن أننا نهرب منه فى حين أننا مساقون فى النهاية إلى ما لا مفر منه؛ الموت.
تطرح الرواية الأسئلة ولا تنتظر إجابات، ماذا لو انتظرت مجهولًا لا تعرف كنهه ولا ماهيته؟ ماذا لو انتظرت عمرًا بأكمله وجاءك ما تنتظره دون أن تكون مستعدا له؟ ماذا لو جاءك ما تنتظره بعد أن دفعت عمرك ثمنا لانتظاره وما عاد فى العمر ما تعطيه لأنك لست مخلدا ولا كائنا أبديا كأبطال الأساطير وألهة الأوليمب؟! ماذا لو؟ وماذا لو؟ وماذا لو؟... إلخ.
ألف سؤال بلا إجابة تطرحها الرواية التى تظلّ بجمالها وغموضها وتشويقها منفتحة على ما لا نهاية من التفسيرات والتأويلات النصية الحرة والمتجددة.
ــ 3 ــ
بطل هذه الرواية اسمه «جيوفانى دروجو»؛ ضابط شاب حديث التخرج، أمضى سنوات دراسته فى الأكاديمية العسكرية وتخرج فيها، وجاء تكليفه بالذهاب إلى قلعة حصينة فى الصحراء على الحدود ليكون قائدًا لجنودها الذين هم فى القلعة للدفاع عن البلاد إذا هاجمها التتار. يذهب الضابط الشاب سعيدًا قاطعًا الطريق على فرسه، وبالقرب من القلعة فى الصحراء يقابل ضابطًا عجوزًا عائدًا إلى المدينة. يقدم إليه الشاب التحية العسكرية، ويسأله الضابط العجوز هل هو الضابط الجديد للقلعة؟ فيجيب فخورًا بأن نعم فيتمنى له إقامة سعيدة، ويمضى كل منهما فى طريق.
يصل القائد الشاب الجديد إلى القلعة، وينتظر مع جنوده التتارَ حتى يبلغ من العمر ستين سنة! مثل القائد الذى قابله من قبل. مضت أكثر من ثلاثين سنة ولما يأتِ التتار بعدُ! ويحال إلى التقاعد وفى طريق عودته وسط الصحراء يقابل شابًا صغيرًا متحمسا هو القائد الجديد للقلعة فيتمنى له إقامة سعيدة!
استغرق ذلك دورة زمنية كاملة قوامها أربعين سنة كاملة، وعندما حانت تلك اللحظة التى ظلَّ جيوفانى دروجو ينتظرها لأربعة عقود، سقط مريضًا، ورغمًا عنه حملوه من غرفته إلى مكان قصى فى الحصن، يجلس أخيرًا فوق أريكة كبيرة، يحدق فى الليل، يفكر فى المدينة عند الغسق، القلق الحلو للفصل الجديد، زرافاتٍ من الشبان والصبايا وهم يسيرون على طول النهر، من النوافذ يتصاعد عزف على بيانو، صفير قطار بعيد. يتخيل نيران معسكرات الأعداء فى سهول الشمال.
مع اقتراب التتار من الحصن، يقترب الموت من جيوفانى دروجو، يبدو له أن مرور الزمن قد توقف وكأنه طلسم محطم، كانت الدوامة قد غدت فى الفترة الأخيرة أكثر شدة، ثم فجأة تحولت إلى لا شىء. يلقى من خلال النافذة نظرة، نظرة مقتضبة جدًّا نحو نجمته الأخيرة، ثم يغوص فى قلب العتمة، وعلى ملامحه ابتسامة.
وخلال هذه السنوات، وهذه الدورة الكاملة من الزمن تدور الرواية كلها فى «الصمت»، كل شىء يغلفه «الصمت» حتى حركة الرياح والأشباح التى لا تنقطع عن الحضور، لكنها ليست أبدًا التتار الحقيقيين. ولما يصاب القائد بالملل يهرب إلى المدينة، لكن نداء خفيًّا يدفعه إلى العودة، وانتظار ما لا يأتى حتى يفوت الزمن.
ــ 4 ــ
فكرة الانتظار والقلق الإنسانى والتأمل الوجودى من التيمات الأثيرة والمتكررة فى الأدب العالمى والعربى على السواء. عرفت فى الأدب العالمى فى مسرح العبث، وفى نماذج عديدة من الرواية الوجودية، والقصة الفلسفية التأملية. وفى أدبنا العربى ترد على ذهنى فورًا رواية نجيب محفوظ «حضرة المحترم» كنموذج ناصع لتجليات الفكرة.
إنها ذات الفكرة الفلسفية الوجودية التى شغلت أيضًا كثيرًا من كتاب الغرب، حيث يعيش الإنسان حياته كلها منتظرًا شيئًا لا يتحقق، أملًا أو حلًّا. إنها الفكرة التى صاغها فيما بعد صامويل بيكيت فى مسرحيته العظيمة «فى انتظار جودو»، وما أدراك ما «فى انتظار جودو» ذلك الذى لا يأتى أبدًا!
تلخص الرواية البديعة الفكرة الفلسفية ببساطة ويسر. كل ما عدا الزمان والمكان زائل، والإنسان مهما طالت به الحياة فهو عابر ومصيره إلى زوال، لا يملك إلا التفكر والتأمل والانتظار والأمل!
وما بين لحظة السعادة والابتهاج بالفتوة والشباب، والوصول إلى اللحظة التى ندرك فيها عبثية الأشياء والمصائر، ننخرط فى انتظار ما لا يجىء إلى أن يجىء ما لا ننتظره! هكذا هى الحياة، ويمضى بنا العمر إلى المصير المحتوم!.
ــ 5 ــ
لا أدرى كم مرة قرأت فيها «صحراء التتار» فى تسعينيات القرن الماضى، قبل أن أقرأ هذه الترجمة الجميلة، لكن ما أن فرغت حتى انتابنى انفعال أعرفه جيدًا، يشبه ذلك الذى عرفته لأول مرة عندما طالعتها فى التسعينيات، إنه ذلك الإحساس المرهف الأسيان الذى يثيره فى أعماقنا الفن الجميل، الذى ينفذ إلى جوهر الوجود، لذلك يجد كل منا نفسه فى «جيوفانى دروجو» ذلك الذى أمضى العمر ينتظر التتار، وحينما جاء التتار كان دروجو يودع الحياة بسخرية وابتسامة!.