مرايتى.. يا مرايتى - داليا شمس - بوابة الشروق
الأربعاء 8 مايو 2024 10:09 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

مرايتى.. يا مرايتى

نشر فى : السبت 19 مارس 2022 - 7:25 م | آخر تحديث : الأحد 20 مارس 2022 - 9:23 ص

ليس هذا هو الصوت الذى تسمعه وهى تؤدى تراتيل الكنيسة. كانت تظن أنه أقل حدة وأكثر رخامة ورصانة، له رنة حلوة تدوى فى جميع الأرجاء، لكن هذا الصوت الذى سمعته على المُسجِلة باغتها، أتاها مفاجئا مثل صلصلة الجرس. وعلى ما يبدو هى الشخص الوحيد الذى يسمعه على هذا النحو، فعلميا نحن نسمع صوتنا بشكل مغاير عن من حولنا، إذ يصلنا عبر الهواء وينتقل إلينا أيضا من خلال الجسد وتجويفاته وعظامه، أى حين يسمع الشخص نفسه يستقبل المخ ترددات قادمة من مصدرين مختلفين: ترددات الأحبال الصوتية القادمة من الجسم من ناحية والموجات الهوائية من ناحية أخرى، ما يجعل له وقعا على الأذن غير الذى يتلقاه الآخرون. وعندما نستمع إلى التسجيلات، يتم فقط التقاط الصوت الخارجى، دون وجود الصوت الداخلى، فنشعر أن الفارق كبير بين الصوت الذى نعرفه وذلك الذى ينطلق من المسجلة.
شعور مربك، فحتى أقرب الأشياء لها أصبحت للتو غريبة عليها، إذ اعتادت مثلنا جميعا على الصوت المُحرف الذى تسمعه فى رأسها منذ الصغر وكانت تراه جميلا وعذبا. تتدافع الأسئلة إلى ذهنها: هل يعجب صوتها المحيطين؟ هل المغنيات المشهورات أحببن صوتهن؟ هل يجب أن تستمر فى التعبد والتقرب إلى الله من خلال الغناء أم من الأحرى أن تجد وسيلة أخرى؟ ربما يجدها البعض مزعجة، فصوتها الحقيقى الذى يخرج من آلة التسجيل ويسمعه الناس يكون أحيانا أنفيا ومرتفعا دون جدوى، بل قد يعكس رعشة وعدم ثقة بالنفس، هكذا قرأته هى، لكنها لم تعد تعرف تأثيره على المتلقين، فالمتخصصون لهم قول آخر ويؤكدون أن إحساسك بصوتك لا يتطابق بالضرورة مع انطباعات المستمعين وأن الموضوع جد معقد.
• • •
صار مثلها مثل من كانت تردد «مرايتى.. يا مرايتى.. من هى أجمل اِمرأة فى الوجود؟»، لكن فى حدوتتها الشخصية، كان السؤال «من هو أجمل صوت فى الوجود؟»، وفجأة وصل إلى أذنيها ما لم يسر قلبها. توقفت مليا أمام إحساسها بنفسها فى الصور الفوتوغرافية الذى ينطلى عليه المنطق ذاته. تنظر إلى الصورة بتجرد وتعيد اكتشاف نفسها، فعادة المخ يرسم صورة متخيلة، نعتاد شكلنا بكل تبايناته كما نراه يوميا فى المرآة، لكن الصورة الفوتوغرافية قد تقول شيئا آخر وتعكس واقعا لا نتقبله أحيانا أو نجده مخيبا للآمال والتهيؤات، ما يحدث بالنسبة للصوت أيضا. الصوت الضعيف يعكس خوفا من التواصل، والمصطنع يعكس هشاشة داخلية، والرتيب يشى بعدم توافق مع الجسد وعدم الارتياح، والصارخ يصرح بالحاجة إلى السيطرة ومحاولة فرض الذات، أما الحاد ــ خاصة عند الرجال ــ يوحى بعدم الثقة. وبما أننا نشبه الممثلين على خشبة المسرح فى تصرفاتنا اليومية، فنحن نلعب بكل الأدوات التى نمتلكها لكى نؤدى دورنا ببراعة، وبالطبع الصوت هو من أهم هذه الأدوات، نحاول أن نتحكم فيه لكى يعطى ما نريده من تأثير، لكنه يخوننا فى أوقات كثيرة ويقول أكثر مما ينبغى عن حياتنا السابقة وما تحملناه وما اجتزناه من صعاب ومعارك وما خرجنا به من هذه التجارب.. ندبات يحملها الصوت تأتينا من بعيد، آثار نفسية لا تزال عالقة بالقفص الصدرى والحنجرة والعنق تجعل الصوت يبدو مخنوقا أو متوترا أو منكسرا أو مرتعشا.
• • •
تم تخزين كل ذلك فى ذاكرة الصوت وصار يسترجعها بتلقائية. ظنت هى لوهلة أنها نجحت من خلال تدريبات الغناء الجماعى فى ترويض وتطويع هذا الصوت، لكن على ما يبدو كانت تخبئه ضمن أصوات الآخرين. وعندما استمعت له وحدها على المُسجلة استوقفتها تلك الرعشة الخفية التى ربما لم يلحظها أحد سواها، هذا الشعور بعدم الارتياح الذى جعل إحدى صديقاتها من قبل تلهث وراء حلم تغيير صوتها، فقد كان غليظا ولا يجده حبيبها مغريا.
تذكرت ما روته لها هذه الأخيرة عن تجربتها: محامية جنائية ناجحة، تكسب معظم قضاياها ولديها قدرة عالية على الإقناع، شعرها قصير وصوتها صارم يتماشى مع هيئتها، وحينما قررت تغيير ذلك من أجل عيون الحبيب، صار شعرها يصل إلى كتفيها ولديها غرة تزين جبينها، ولكى تضاعف تأثير هذه النعومة الزائفة أجرت عملية جراحية بسيطة لإزالة نتوءات على الأحبال الصوتية، فأضاعت نفسها، لم تعد هى من كانت، وفقدت الكثير من مصداقيتها.
استكملت صاحبتنا تدريباتها ضمن أعضاء كورال الكنيسة، تضرعت إلى الله، وتمنت أن يظل صوتها يعبر عنها وعن حدوتتها الشخصية بصدق، مهما حمل من هنات وذنوب صغيرة. استمرت فى الغناء لكى تتصالح معه أكثر فأكثر، حتى لو لم يكن الأجمل. صارت تسجله وتستمع له مرارا وتكرارا حتى تفهم ما يبعثه من رسائل وما ألمّ به، تواسيه وتهدهد نفسها بلطف.

التعليقات