المقاومة في نماذج محمد مندور البشرية! - إيهاب الملاح - بوابة الشروق
الخميس 9 مايو 2024 10:37 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

المقاومة في نماذج محمد مندور البشرية!

نشر فى : السبت 18 نوفمبر 2023 - 6:55 م | آخر تحديث : السبت 18 نوفمبر 2023 - 6:55 م
ــ 1 ــ
فى المقال السابق أشرنا إلى ما نظنه أبرز الأعمال النقدية التحليلية لفكرة المقاومة وأدب المقاومة فى النقد العربى الحديث، أسبقها تاريخيا ــ فيما أعلم ــ كتاب «نماذج بشرية» للناقد الراحل العظيم محمد مندور (1907ــ1965) تلميذ الدكتور طه حسين النابه، وصاحب الحضور الجماهيرى اللافت طيلة أربعينيات وخمسينيات وستينيات القرن الماضى.
«نماذج بشرية»، أجمل وأمتع ما كتب المرحوم محمد مندور، وهو أحب كتبه إلى قلبى دون منازع (كانت أول مصافحة لهذا الكتاب فى طبعة مكتبة الأسرة 1996، وكتب له مقدمة طويلة الناقد الراحل رجاء النقاش)، ولو يعلم قارئى الكريم مدى أثر هذا الكتاب علىّ وعلى حياتى كلها لاندهش غاية الاندهاش والتعجب!
ــ 2 ــ
كانت قراءة هذا الكتاب تحديدا فى 1996 سببا رئيسيا فى حسم قرارى النهائى بالالتحاق بكلية الآداب، ودراسة الأدب والنقد الأدبى؛ مثل محمد مندور، ومثل أستاذه طه حسين.. صدر الكتاب للمرة الأولى فى 1951 عن مطبعة (لجنة التأليف والترجمة والنشر)، متضمنا تحليلا وافيا لأربعة عشر نموذجا بشريا تم تمثيلها أدبيا فى نصوص مسرحية وروائية (يزيد عليها ستة ليصبح المجموع عشرين نموذجا)، من أشهر نماذج الأدب العالمى وكلاسيكياته وعيونه الكبرى.
أذهلنى أن الأثر نفسه الذى تركه الكتاب فى نفسى وروحى يكاد يكون هو ذاته الذى تحقق بحذافيره فى نفس كاتب كبير بقيمة المرحوم علاء الديب الذى سجل حرفا ما نصه: ««نماذج بشرية» كتاب فريد فى نوعه وقيمته وتأثيره، قرأت الكتاب قبل أن أنهى دراستى الثانوية، كان هو الباب الذهبى الذى دخلت منه إلى العالم السحرى الذى ما زلت أعيش فيه وأتمنى ألا أخرج منه إلى نهاية العمر: عالم الأدب، أو العالم كما يراه الأدباء، ويعيدون خلقه على الورق، علمنى حب القراءة، حب البحث عن المعنى والحب والتحقق كما يصنعها الكتاب والمفكرون: هنا، وفى أى مكان لكى يعيدوا ترتيب الصخب والارتباك الذى يعيشه مراهق يبحث له فى الحياة عن طريق».
ــ 3 ــ
كنت ألتهم السطور والفصول التهاما، لا أكترث لشىء أو أهتم لأمر سوى ما حملته فصول الكتاب من متعة لا تدانيها متعة، ومن بين فصول الكتاب الممتعة جميعا، استوقفنى الفصل المسمى «جفروش»، الذى أعتبره واحدا من أعظم نماذج المقاومة فى الأدب الإنسانى عبر العصور، ولا يملك قارئ هذا الفصل أو قارئ العمل الذى ظهرت فيه هذه الشخصية إلا أن يقارن فورا بين حضور هذه الشخصية الفاتنة فى كلاسيكيات الأدب المعاصر وبين ما يدور هذه الأيام من مآس وأحزان فى غزة بفلسطين!
و«جفروش» هذا، هو طفل باريس المشرد فى الشوارع، الذى اندس فى إحدى الثورات الفرنسية بين الصفوف الغاضبة الصاخبة، فدخل مستودعا للأسلحة وسرق منه «طبنجة» وجد أنها بدون زناد، فتركها جانبا وبحث عن سلاح بزناد!
كان يحمس المقاتلين الثائرين، ويتغنى معهم بالنشيد الفرنسى الوطنى، يتنقل بين صفوفهم، ويحثهم على القتال، ويقيم معهم الحواجز التى تحميهم. ويتركهم حينا ليتحول للأزقة، يحطم مصابيحها بالحجارة، ويجد حمالا ثملا يسوق عربة فيأخذها ويسوقها مرسلا ضجة تلفت نظر البوليس، فيدفعها بين أرجلهم ويهرب.
ــ 4 ــ
ولم أكن أتخيل للحظة وأنا أقرأ عن شخصية هذا المقاوم الصنديد الصغير «جفروش» فى رائعة فيكتور هوجو «البؤساء» أننى سأبكى كل هذا البكاء، وأتأثر كل هذا التأثر ويبلغ منى الحزن مبلغ الاكتئاب والانزواء كأن هذا الـ «جفروش» من لحم ودم تربطنى به أواصر القربى والنسب. وفهمت تماما ما كان يقصده مندور حين كتب فى صفحات الكتاب الأولى: «قد يبدو غريبا أن نترك النماذج المشهورة كدون كيشوت، وهملت، وفاوست، لنبدأ «بجفروش»؛ «جفروش» طفل فى الثالثة عشرة من عمره، يظهر ويختفى بعد أن تبدأ رواية «البؤساء» لهيجو وقبل أن تنتهى، فلا هو بطل الرواية ولا هو مدارها، ولكننى رغم ذلك أحب هذا الطفل وأفضله على الرجال، حتى إننى أقعدنى المرض أياما فلم أجد جليسا تستريح إليه النفس خيرا منه.
لقد سئمت منطق البشر وأصبحت أرثى لذلك الفيلسوف الجليل «أفلاطون» الذى غذى شبابى بما فى الخير والحق من جمال، لا أدرى هل ضل الرجل عندما زعم أن النفوس لا يمكن إلا أن تعشق الخير والحق إن أبصرت بهما، أم يخادع الناس أنفسهم ويخادعون الغير عندما يتحدثون عن الخير والحق؟ من يدرينا؟ قد لا يكون هذا ولا ذاك وإنما هو عبث بالألفاظ وإخراج للغة عما خلقت له من حمل معانى النفوس ونفثات القلوب، ولكم من مرة حدثتنى النفس أن اختراع اللغة هو أقسى ما نزل بالبشر من كوارث».
ــ 5 ــ
كان «نماذج بشرية» فتحا عظيما وهائلا على روائع الأدب العالمى ونصوصه الكبرى، انفتحت الشهية على مصراعيها لقراءة كل النصوص التى أوردها المرحوم محمد مندور فى كتابه؛ «البؤساء» لفيكتور هوجو، و«دون كيشوت» لثربانتس، و«فاوست» جوته، و«هاملت» شكسبير، و«الكوميديا الإلهية» لدانتى الييجيرى، و«روبنصن كروزو» لدانيال ديفو، و«الملك لير» لشكسبير، وغيرها من النصوص العظيمة.
يتجلى صوت «قلب» مندور الحقيقى، وثورة عقله كما لم تتجل فى كل أعماله، يتجلى أكثر بريقا ووضوحا فى اختيارات «نماذج بشرية»، فيه تقرير واضح شفاف للدور الإنسانى الذى يلعبه الأدب فى تقدم المجتمع، وفهم شخصية وتطور الإنسان، وإعلاء قيمة «المقاومة» بما هى فعل إنسانى نبيل.
المعانى والقيم والأفكار التى يستخرجها مندور من أكثر من عشرين نموذجا بشريا من خلق الأدباء والمفكرين تكاد تصنع دليلا يشرح تطور العقل والفكر الإنسانى من اليونان القديمة حتى الآداب الحديثة..
(وللحديث بقية)