منزل صغير في رأس غارب - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
الجمعة 10 مايو 2024 5:56 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

منزل صغير في رأس غارب

نشر فى : السبت 15 يوليه 2023 - 8:25 م | آخر تحديث : السبت 15 يوليه 2023 - 8:25 م
سر هذه المذكرات الشخصية الطريفة فى أمرين مهمين:
أولهما؛ التلقائية والبساطة وخفة الظل التى كتبت بها، فصاحبها يبدو كما لو كان يحكى لشلة أصدقاء حوله عن ذكريات طفولته، ويتوقف عند تفاصيل جعلها الحنين غير عادية، وقد كتب هذه الذكريات أولا على الفيسبوك، بكل ما تمتلكه هذه الوسيلة من التواصل الحى، ومن حضور العامية، رغم أن الكاتب له أسلوب جميل بالفصحى السهلة والبسيطة.
الأمر الثانى؛ هو أن المذكرات عن مكان بكر، لم نقرأ عنه من قبل، وأعنى هنا القراءة عن البشر والتفاصيل والمجتمع الحى النابض بألوان النشاط، وإن كنا نعرف أن المكان، وهو مدينة رأس غارب، خرج من قلب موقع لاستخراج البترول على البحر الأحمر، على مسافة ما من مدينة الغردقة، الأكثر شهرة وانتشارا، لأهميتها السياحية.
رأس غارب فى كتابنا، وعنوانه «مذكرات عائلة مسيحية بين القاهرة ورأس غارب»، لمؤلفه د.إيليا محفوظ بشير، والصادر عن دار العربى، لم تعد مجرد نقطة صماء على الخريطة، ولكنها صارت حياة كاملة، من خلال عيون الطفل إيليا، آخر عنقود أسرته، التى استقر عائلها فى رأس غارب، بحكم عمله فى الشركة العامة للبترول.
الطفل الذى وُلد هناك، يستعرض لمحاتٍ من العالم الملون الذى عاينه، وتحديدا من العام 1959 إلى العام 1965، أى نحو ست سنوات، انتقلت الأسرة بعدها إلى القاهرة، لخروج الأب إلى المعاش.
الحقيقة أن العنوان الأجدر بالكتاب هو «مذكرات عائلة مصرية»، فلا يوجد فارق بين ما يحكيه د.إيليا عن أسرته المسيحية ذات الأصول الصعيدية، وبين أى عائلة مسلمة، كما أن سيرة الحياة فى القاهرة، أو زيارات الطفل مع العائلة إلى قنا، تأتى فى سياق المقارنة مع جنة رأس غارب فى تلك السنوات، ونحن نغادر رأس غارب لنعود إليها، فهى العشق ومحور الكلام والكتاب، وقد عاد إليها د.إيليا فعلا للزيارة فى مرحلة الثانوية العامة، ثم استقر فى الغردقة نهائيّا كصاحب معمل للتحاليل.
يحكى د.إيليا بتدفق وبخفة ظل، وبطاقة حنين ودهشة، فيثبت أن الخاص جدّا، إذا حُكى بصدق وحميمية، يمكن أن يكون عامّا ومشتركا، كما أنه يوثِّق، دون أن يدرى، تفاصيل حياة مندثرة، فى مدينة أنشأها التعدين، واندمج فيها مجتمع الشركة الأجنبية، مع مجتمع المصريين القادمين من مدن صعيدية تماما، ومن هذا المزيج، وُلدت رأس غارب، وكانت فى عصرها الذهبى فى تلك السنوات، من نهاية الخمسينيات، والسنوات الأولى من الستينيات.
من ناحية أخرى، فإن الحنين إلى العائلة، والبيت الصغير، والوصف الدقيق للطقوس، ولألعاب الطفولة، وللأب والأخوة، ولنادى الموظفين، وللمنزل، ولجماعة الرفاق، ولحفلات السينما، وللمدرسة، ولأبسط مظاهر الحياة، كل ذلك يستدعى تفاصيل مشابهة لدى عائلات مصرية موازية فى تلك السنوات، التى شهدت تألق الطبقة الوسطى.
وإن ظلت أسرة محفوظ بشير، كاتب الحسابات، الذى يتحدث باللهجة الصعيدية، ويجيد القراءة والكتابة بالإنجليزية، تمتلك خصوصية العيش فى مجتمع كوّنه الذهب الأسود.
وقد ذكّرنى التغيير الذى أحدثه البترول، ومجتمع موظفى وعمال الشركة، بما حدث من تغييرات فى مدينتى نجع حمادى، مع افتتاح مصنع الألومنيوم فى منتصف السبعينيات، وما زال مجتمع هذا المصنع، عمالا وموظفين، قريبا جدّا مما وصفه د.إيليا عن مجتمع مدينة رأس غارب.
وبينما يمتلك المؤلف عينا عاشقة لا تترك شاردة، فإنه لا يكتفى بالتوثيق، واستدعاء نوستالجيا الأماكن والبشر والرفاق والبريمة والميناء والجسر والشاطئ، ولكن عينه دوما على المقارنة بين الأمس واليوم، بل ويقارن بين رأس غارب فى تلك السنوات المبكرة، ورأس غارب بعد أن زارها فى الثانوية العامة.
إنه ينتقد بشدة هدم تلك المنازل التى بنيت بالدبش، المناسب لأجواء مصر، بقرار من أحد رؤساء مجالس إدارة الشركة، كما ينتقد سلوكيات مصرية كثيرة، ويبدى دهشته من التزام المصريين بالعمل الجاد، بالدقيقة والثانية، فى ظل إدارة أجنبية، بينما يتجهون إلى التكاسل والفوضى والفهلوة، إذا تُركوا لأنفسهم.
لا يرى د.إيليا، ومعه حق، أن مقولة «شعبنا ليس له كتالوج» ميزة أو بمثابة مدح، فليتنا كنا نمتلك «كتالوجا»، ونظاما للعمل الجاد المنتج، بدلا من أن يسير كل واحد على مزاجه، وحسب الظروف.
ينجح الكتاب، رغم بساطة لغته واختلاط الفصحى بالعامية، فى نقل الحالة والجو، وفى إخراج الطفل المندهش من ذاكرة رجل تقدّم فى السن (د.إيليا فكتب ذكرياته وهو فى الخامسة والستين)، كما ينجح فى رسم بورتريهات إنسانية شيقة وعذبة، ولا تخلو من الطرافة.
ويتفوق الكاتب بشكلٍ خاص فى وصف معالم المكان صوتا وصورة وحركة ورائحة، من الشاطئ إلى رحلات الصيد، ومن فصول الدراسة إلى الكانتين، بينما تمتلئ العلاقات الأسرية لعائلته كبيرة العدد بحكاياتٍ طريفة ومضحكة، فنرى الحياة المصرية فى جزئياتها، ومن خلال الناس العادية، الذين لا تذكرهم كتب التاريخ الرسمية.
هو إذن التاريخ من أسفل فى نسيجه الإنسانى، وفى علاقة الناس بالمكان وبالطبيعة، وفى امتزاج الصناعى والتكنولوجى بالتقليدى، وفى لحظة التقاء القادمين من مدن الصعيد، بالأجانب الذين يستخرجون البترول، وكلها لحظات تشكل منجما هائلا للدراسة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والتاريخية، رغم أنها لم تكن سوى حكايات بدافع الحنين، وذكريات من قلب البراءة.
أظن أن د.إيليا ما زال يمتلك الكثير من الذكريات، التى نتمنى أن يسترجع الكثير منها، ونتشوق أيضا لمزيدٍ من الصور النادرة، بالإضافة إلى تلك التى تضمنها الكتاب.
لعل الدرس الأهم فى هذه التجربة، أنه لا يوجد شىء تافه أو غير مهم، حتى ألعاب الأطفال، وطقوس إصلاح دراجة هوائية، وطريقة عمل «الفايش»، واستخدام «الدوم» فى مباريات البولينج الصعيدى، ووجود كتاب مدرسى بعنوان «لماذا يحبنى الناس؟».
كل ذلك مهم ودال، لأنه يضيف ألوانا زاهية، إلى لوحة الحياة الحقيقية.
محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات