عن تذوق الشعر وأوهام اللغة - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
السبت 11 مايو 2024 9:06 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عن تذوق الشعر وأوهام اللغة

نشر فى : السبت 15 أبريل 2023 - 8:10 م | آخر تحديث : السبت 15 أبريل 2023 - 8:10 م

أكرر دائما أن الشعر والموسيقى موجودان أصلا فى الكون، وعند أطراف الأصابع، والشاعر والموسيقى وحدهما من يسمعانهما، ويترجمانهما إلى كلمات أو مقطوعات موسيقية.

هى إذن مسألة أجهزة استقبال يقظة، مصقولة، تمتزج فيها الموهبة بالدراسة، وتعمل من خلالها الحواس بتناغم مدهش.

ولكن لا يمكن أن نكتب شعرا، أو نعزف موسيقى، بدون أن يكونا موجودين من الأساس فى العالم.
من أين تنشأ المشكلة إذن، فيبدو الشعر، فى نظر البعض، وكأنه أصوات غريبة وغامضة، وتصبح الموسيقى حراما أو رجسا من عمل الشياطين؟

الإجابة: فتش عن التعليم.

إنهم لا يعلمون تذوق الشعر والموسيقى، أو يعلمونهما بطريقة خاطئة وكارثية.

منذ شهور، حضرت ندوة ممتازة عن تذوق الشعر، تحاور فيها الشاعر أحمد شافعى، مع الشاعرة والأكاديمية المرموقة د فاطمة قنديل، وقدمت د فاطمة قراءة تحليلية لامعة لنماذج شعرية مختارة، من امرؤ القيس إلى صلاح عبدالصبور، مستخدمة أسلوبا سهلا، ومنهجا متبصرا، يدرك معنى اللفظ، وطبيعة فن الشعر قديما وحديثا، ومفهوم الصورة الشعرية، والموسيقى، دون تعقيد أو تسطيح.

كانت الندوة حقا نموذجا لما يجب أن يكون لتعليم تذوق الشعر فى مدارسنا البائسة، والمثقلة بالمناهج العتيقة، وبأساليب البلاغة الكلاسيكية، وبالقواعد النظرية الجافة، بل إن التعليم فى المدارس لا يعترف بالأشعار العامية العظيمة لكبار شعرائنا، وكأن الشعر بلغته ولهجته، وليس بفنيته وصوره وموسيقاه.

قلت فى الندوة إننى أتمنى أن تقدم الفضائيات أو محطات الراديو برنامجا للشاعرة فاطمة قنديل، تحلّل فيه القصائد الشهيرة، وعيون الشعر المكتوب بالعامية، أو أشعار الأغانى الجميلة، بنفس المنهج، وبنفس تلك الطريقة البسيطة والعميقة.

بل لعل البداية فى تعليم الشعر، وفى فهم معنى البلاغة، والصورة الشعرية، ليست أصلا عبر شعر الفصحى، ولكن من خلال شعر الحياة، وفى مجازات وصور وموسيقى تتزاحم حولنا دون أن ندرى، ونسمعها أيضا فى مديح الموالد، وملاحم السيرة الشعبية، وفى مربعات ابن عروس، وفى أمثالنا الشعبية.

الشعر حولك وأنت لا تعرف.

والمجاز والتشبيه فى كل مكان، وأنت لا تدرى.

هذا فيما أعتقد هو الدرس الأول.

من العجيب أن نكتشف المجاز المرسل فى شعر المتنبى مثلا، قبل أن نكتشفه فى عبارات بسيطة، يمكن أن تسمعها فى موقف سيارات الأجرة، كأن يقول أحدهم:

«مافيش عجلْ فى الموقف»، دون أن يلاحظ أحد أنها عبارة مجازية، يقصد بها أنه «لا توجد سيارات فى الموقف».

أراد صاحبنا الكل، ولكنه عبّر بالجزء، وهو «عجلْ السيارة».

الدرس الثانى الأهم هو أن الشعر ليس بالفصحى أو العامية، أو بالعربية أو الإنجليزية أو الفرنسية، ولكن «الشعر لغة» فى حد ذاتها، مستقلة عن اللغة الإصطلاحية التقريرية، مهما كان مصدرها.
الشعر يعيد صياغة واكتشاف كل لغة، ويحوّلها إلى « لغة فنية» تخصه، يمتزج فيها المجاز بالموسيقى بالصورة، وتنشأ من خلالها علاقات لا وجود لها بين مفردات اللغة الإصطلاحية.

فى كتاب «حكايات والد الشعراء فؤاد حداد» لمؤلفه هشام السلامونى، قال حداد للمؤلف:
«ليس هناك شعر عامى، وشعر فصيح، هناك شعر، ولا شعر، الشعر بأية لغة، وبأية لهجة.. شعر، والكلام الفارغ حتى لو كان موزونا، وذا قواف بأية لغة، وبأية لهجة، فى أى عقلية.. لا شعر».

وقال أيضا:
«العامية بنت الفصحى.. الصراع بينهما مزعوم.. الفصحى عظيمة، والعامية بنتها وعظيمة، المهم اللى يكتب يكتب شعر، بيرم اللى كتب بالعامية عظيم، وشوقى اللى كتب بالفصحى عظيم، المهم الشعرا يبقوا بيرم ولاّ شوقى».

الحقيقة أن اللغة المألوفة لا تصبح هى نفس اللغة عندما يروضها الشعر، ولكن تنشأ لغة أخرى تخص القصيدة والتجربة، وكان ذلك أيضا رأى الأبنودى فى حواره الشهير مع فاروق شوشة فى برنامج «أمسية ثقافية»، بحضور صديق عمره، شاعر الفصحى الفذ، أمل دنقل.

خذ مثلا أغنية تبدو عادية لأحمد زكى، كتبها صلاح جاهين فى إحدى حلقات مسلسل «هو وهى». بطل الحكاية المصدوم فى حبيبته يغنى:
«لا مش كده/ لا لا اثبت/ ما تخليش ولا واحد يشمت/ ارسم على وشك تبسيمة/ واوعى تلفّ بجرحك تشحت».

هذه المفردات نستخدمها كل يوم، بل إن هذه المعانى يمكن أن تقال بطرق أخرى، ولكن هذه المفردات فى أغنية جاهين لم تعد كما كانت، وإنما صارت ألوانا فى لوحة مكتوبة بالكلمات، وصنعت موسيقى تخصها، وصارت كذلك تنتمى لصوت صاحبها وحده، تماما مثل اللون الأصفر، الذى يأخذه الرسام من الحياة، فيخصخصه لصالح لوحة معينة، بتكوين معين.

كلمات مثل «اثبت»، و«يشمت»، و«تشحت»، لم تعد هى مفردات الحياة كما نعرفها، لأنها صنعت معا قافية ساكنة. قافية تستدعى سكون الموت.

صارت كل مفردة صوتا مكمّلا للصوت الآخر، وكل مفردة تنتهى بسكتة مفاجئة.

هذا «استخدام فنى» للغة، يحولها إلى مؤثر صوتى، ويأخذ الغضب إلى فراغ هائل، وكأنه فراغ الموت.

جاهين لم يقل «ابتسامة»، ولكنه قال «تبسيمة»، فكأن بطلنا يصطنع السرور، وينحته على وجهه.
و«التبسيمة» تكسر القافية الساكنة، فهى ليست مجرد لفظ منفصل عن اللوحة، ولكنها تؤدى دورا فنيا فى إطارها.

«التبسيمة» كسرت القافية، مثلما كسر الموقف قلب الشاعر.

«التبسيمة» جعلت صنعة التظاهر تعترض شعور الغضب المتدفق.

هذا ليس لفظا، ولكنه سد أو حاجز، يتعثر فيه حصان جموح، ولكن سرعان ما يقف الحصان الجريح، مستعيدا قافية الكلام الساكن، فيصرخ من جديد:
«واوعى تلفّ بجرحك تشحت».

أردت أن أبرهن لك، ومن خلال أغنية رائجة، كتبت بالعامية، على أن الشعر يستخدم مفرداتنا، ولغاتنا، ولهجاتنا، ولكنه يصطنع لنفسه، من خلال هذه المادة، وعبر أدواته، «لغة فنية» تخصه.
من هنا نبدأ: لا معنى لأن نتذوق «باللغة الاصطلاحية» قبل أن نفهم معنى «لغة الشعر».

محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات