«صاحب العالم».. عودة الأخ الكبير - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
السبت 11 مايو 2024 11:51 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«صاحب العالم».. عودة الأخ الكبير

نشر فى : السبت 14 أكتوبر 2023 - 8:15 م | آخر تحديث : السبت 14 أكتوبر 2023 - 8:15 م
عندما ابتكر جورج أورويل فى روايته «1984» شخصية «الأخ الكبير»، أو العين الكبرى المراقبة للبشر، والقادرة على تسجيل أدق تصرف أو سلوك، وعقاب من تريد، لم يكن يعرف أن المصطلح سيصبح فكرة مؤرقة، لها تجلياتها الواقعية، وأن «الأخ الكبير» سيصبح من حقائق عالمنا، لأننا بالفعل تحت مراقبة عين إلكترونية، يمكنها أن تهدد وتعاقب.
ومن المفارقات أن أحد برامج تليفزيون الواقع الشهيرة، حمل اسم «الأخ الكبير»، وجمع شبابًا وفتيات فى مكان واحد، منحهم حرية الحركة والتصرف، ولكنه سلب منهم خصوصيتهم، وجعلهم تحت المراقبة طوال اليوم، بكاميرات فى كل مكان.
وهذه رواية ذكية للغاية كتبها أحمد صبرى أبو الفتوح بعنوان «صاحب العالم»، وصدرت عن دار الشروق، تختبر عودة «الأخ الكبير»، وسطوته، وقدرته على انتهاك حياتنا، التى نظن أنها آمنة، وتحكى ببراعة عن تبدد وهم الخصوصية فى زمن الموبايل والإنترنت والتطبيقات الإلكترونية التى تحقق فوائد دون شك، ولكنها عيون كبيرة تجعلنا عرايا تقريبًا، وتدفعنا للهروب والاختباء من سطوة الأخ الكبير.
الرواية ليست فقط بفكرتها الأساسية اللامعة، التى تذكرنا بأن مجرد وجود موبايل أو بطاقة إلكترونية معناه أنه يمكن الوصول إليك، ويمكن معرفة أدق أسرارك، ولكن أيضا فى الانطلاق من هذه المطاردة من الأخ الكبير الجديد، الذى يسميه المؤلف «صاحب العالم»، إلى الانتصار للإنسان فى مواجهة الآلة: الإنسان الحر صاحب الإرادة والقرار، والقادر على المواجهة ومراجعة نفسه، الإنسان كما هو بكل ضعفه وأخطائه. إنها أيضًا رواية عن الصداقة والحب والتسامح، باعتبارها أطواق النجاة فى مواجهة عيون الآلات المهددة والمراقبة.
نجاح الرواية كذلك فى بناء شخصياتها، وضبط الصراع، ونسج علاقات إنسانية رهيفة بين نماذج متفردة، ثم فى اختيار طريقة مشوقة فى السرد، تستلهم آليات الرواية البوليسية، وهو اختيار موفق للغاية، ذلك أننا أمام سر اختفاء وهروب، وسر صاحب العالم، ومجلس إدارة الأرض، ونحن طوال الوقت فى قلب الخطر والأزمة، التى وجد بطل الحكاية نفسه متورطًا فيها، ونحن طوال الوقت أمام غموض وتشوش وحيرة وارتباك، ومراوحة بين النجاح والفشل فى الهروب.
اختيار البطل ووظيفته ومكانه كان أيضًا موفقًا، فالشخصية الرئيسة لموظف على المعاش يُدعى عبدالحميد دهمش، نموذج للموظف الكلاسيكى، الذى وصل إلى منصب السكرتير العام المساعد لمحافظة فى الدلتا، حياته رتيبة مغلقة، ولذلك ستكون المفارقة أن يختاره صاحب العالم، ليكون محور لعبته.
الأخ الكبير وصل إلى موظف قديم فى المنصورة، واخترق مراسلاته الماجنة، والآن على سجين الوظيفة والبيت، الرجل الذى لم يخطئ إلا إلكترونيا مع امرأتين تعلّق بهما، عليه أن ينفتح على العالم، وعليه أن يهرب من عين عارفة ومسيطرة، تملك الأرض والناس والوقت، وتهدده بالفضيحة الكاملة لـ دهمش، أمام ابن وابنة، يعيشان مع أسرتيهما فى الغربة.
هذا الاختيار يجعل الزمن الكلاسيكى القديم فى مواجهة عصر التكنولوجيا المخترقة والكاشفة، ويجعل من دهمش نموذجًا من الرجل العادى، الذى وجد نفسه عاريًا، وعليه الآن أن يراجع حياته بأكملها، ثم يبحث عمن يساعده على مواجهة صاحب العالم، وهنا ينسج الكاتب ببراعة ملامح شخصية أساسية أخرى هى رزق مرزبة، صديق طفولة ودراسة دهمش، الفتوة والقاتل والمجرم الذى امتلك كشكًا يساعده على الحياة، وسيكون رزق هو القوة الأساسية فى مواجهة صاحب العالم، بينما ستكون توحيدة، الجارة العاشقة، هى واحة التسامح والاحتواء.
الحب والصداقة يواجهان العين المسيطرة، والبشر الحقيقيون، بكل عيوبهم ونقائصهم أفضل من ذلك الصوت، الذى يطارد دهمش عبر التليفون، والهروب يعزل الإنسان نهائيًا عن الآلة، يعيده كائنًا يتواصل مباشرة مع غيره، بل إن أزمة دهمش أعادته إلى البحث عن عناصر مشتركة مع نقيضه، أى مع رزق البلطجى السابق، وأعادته إلى اكتشاف جارته، التى كان ينزعج من مطاردتها.
غياب الآلة، أو بمعنى أدق الهروب من مطاردتها، أدى إلى اكتشافٍ أعمق لإنسانية البشر، وإلى تضامن حقيقى ممن لا تتوقع أبدًا أن يقفوا معك، فيكتشف دهمش مدى محبة الجارة توحيدة له، ويعرف أن رزق، رغم وحشيته وسوقيته، يمتلك قلبًا محبا له، بل ويعتبر دهمش مثله الأعلى، وسيوظف رزق كل خبرته مع أحط البشر، لكى ينقذ صاحبه دهمش.
الرواية تختبر أيضًا أفكارًا عميقة أخرى مثل مواجهة المعرفة بالمعرفة، وتعدد وجهات النظر، بتعدد الموقع والطبقة والمكانة، وتعقيد الكائن البشرى، رغم خفّته وسطحيته التى يبدو عليها.
رحلة دهمش فى جوهرها هى رحلة معرفية، ليكتشف نفسه ومخاوفه، ولكى يتأمل ماضيه وعلاقته مع زوجته الراحلة حسناء، وعلاقته مع امرأتين أُعجب بهما هما ألفت زاهر، وديلارا المراكبى.
أما تكنيك رسم الشخصيات فيراوح بين الظاهر البسيط، والداخل المعقّد، وأوضح مثال على ذلك شخصية رزق، الذى نظنه فى البداية خطرًا على دهمش، بل وعلى البشر كلهم، بينما يتحول إلى منقذ له، ومثل شخصية ديلارا، التى تبدو امرأة ملائكية ومتزنة، ولكنها تضعف أمام إغراء ألعاب دهمش الجنسية الإلكترونية.
لكن القانون العام للحكاية هو التعاطف مع الإنسان، مع ضعفه ونزقه ووحدته، مع اختياراته الخاطئة، والإيمان بقدرته على مراجعة نفسه، واسترداد إرادته، واكتشاف ما لا يعرفه عن نفسه، وقدرته على أن يتضامن مع غيره، فنمتلك «معًا» الأمل فى الخلاص.
ورغم نهاية رقيقة وعذبة، فإن الرواية تترك قلقًا حقيقيًّا فى نفس القارئ، فالآلات والتكنولوجيا الخادمة ليست سوى جواسيس، وليس هناك ما يجزم أن صاحب العالم سيسكت على هروب دهمش، فالأرجح أن يستمر الصراع طويلًا، وربما بلا نهاية محددة.
لكن شيئًا عظيمًا تغيّر: لقد عرف دهمش نفسه، وعرف أحباءه وأصدقاءه، وأدرك أن إرادته التى استغنى عنها فى الوظيفة، هى أثمن ما يمتلك.
لقد عرف أنه يمكن أن يكون وحده «صاحب عالمه».. لو أراد.
محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات