ذَهَبْ أمي - نيفين مسعد - بوابة الشروق
الخميس 9 مايو 2024 10:37 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ذَهَبْ أمي

نشر فى : الخميس 13 أبريل 2023 - 8:55 م | آخر تحديث : الخميس 13 أبريل 2023 - 8:55 م
في أسرتي الصغيرة لم يكن من عادتنا أن نعطي وزنًا كبيرًا لمعدن الذهب، ولم تكن لدى أمي شكمجية أنيقة كتلك التي كانت تحتفظ فيها ستات زمان بالمصاغ والمجوهرات. وظلت أمي على هذا الحال رغم التطوّر الكبير في صناعة المشغولات الذهبية والتحوّل بها من الكتل الضخمة عيار ٢١ التي تُعد مخزنًا معتبرًا للقيمة، إلى القطع الجمالية الرقيقة عيار ١٨ أو عيار ٩ والتي تتسّع في ثمنها الفجوة بين قيمة الذهب الخالص وأجر الصانع الماهر. وحتى حين صارت للذهب ألوان متعددة وعرفنا مصطلحّي الذهب الأبيض والذهب البرونزي لم يتغيّر موقف أمي، فلا هي كانت تعتبر الذهب مظهرًا للوجاهة الاجتماعية لأسرتنا التي تنتمي للطبقة الوسطى، ولا هي كانت تحكم على سيدات الحي والنادي وأمهات زملائنا في المدرسة بعدد الأساور الذهبية التي يرتدينها، كانت تبني أحكامها في الناس على أساس مستوى تعليمهم، وكانت تقدّر بشكل خاص التعليم المتميّز للبنات وتعتبر أن هذا هو مخزن القيمة الحقيقية، وتلك كانت نظرة تقدمية بمقاييس النصف الأول من القرن العشرين. لكن باعتبارها زوجة الابن الأكبر فإنها شاركَت في اختيار الشبْكة لعرائس أعمامي دون أن يزغلل الذهب عينيها أو يسيل له لعابها، وشاركتُ معها في بعض مشاوير الصاغة وأدليتُ بدلوي في اختيار الشبْكة لبعض هؤلاء العرائس. أذكر مثلًا كل الطقوس المصاحبة لزواج عمي الثالث في ترتيب الأعمام الثمانية والذي كان يقيم في إحدى قرى محافظة كفر الشيخ، وأذكر كيف ذهبتُ مع الجميع لاختيار الشبْكة من أحد محلات الذهب في مدينة دسوق ذات الشهرة الواسعة في تجارة الذهب، بل أذكر يوم حملنا هذه الشبْكة وتوجهنا لخطبة الشابة المليحة التي صارت لاحقًا زوجة عمي، وكيف صنع لي مشهد الخطوبة إثارة عقلية بالغة وأنا ابنة السابعة أو الثامنة من عمري ومع ذلك أذهب مثل الست الأروبة لطلب يد الآنسة ليلى لعمي الشيخ محمد إمام مسجد القرية. كنتُ بالتأكيد ألعب دورًا أكبر من سنّي بل وحتى أكبر من توقعاتي نفسها لأنه أدخلني في زمرة الأطراف صانعة القرار في نطاق العائلة، لكنني واثقة تمامًا من أنني كنتُ فخورة بهذا الدور. أما عندما شدّدت بوقار على يد العروس وقلتُ لها بصوت مسموع: ربنا يتمّم لكم بخير، فلقد شعرتُ بأنني أتقمّص شخصية معجزة التمثيل في ذلك الوقت: الطفلة إكرام عزّو.

• • •

لم تكن إذن حصيلة أمي من المجوهرات كبيرة، وكانت على استعداد تام للتخلص من أي قطعة من حلّيها الذهبية بمنتهى السهولة إذا ما احتاج إليها البيت. وفكرة التصرُف في الذهب لمواجهة الطوارئ هي فكرة متأصّلة عند معظم النساء، كما أن لها تطبيقات كثيرة في مجتمعنا على المستوى الوطني، ومن الأمثلة الرائعة التي تتبادر للذاكرة مثال الأميرة فاطمة ابنة الخديوي اسماعيل التي ساندَت مشروع بناء الجامعة المصرية (جامعة القاهرة)، ولم تكتف بتخصيص قطعة أرض لبناء الجامعة، لكنها عرضَت جزءًا كبيرًا من مجوهراتها للبيع في مزاد علني لتمويل البناء والاحتفال بتأسيس الجامعة. وهناك أيضًا مثال السيدة هيلانة سراج التي تبرّعت بمجوهراتها لبناء جمعية خيرية وكنيستين بالإسكندرية، هذا إضافة إلى دور النساء في التبرع بمصاغهن لدعم المجهود الحربي بعد نكسة ١٩٦٧. ولئن لم يكن لذهب أمي دور وطني في حدود ما أعلم، لكن بالتأكيد كان له دور أُسري مشهود، فلقد حدثَتنا أمي مرارًا وتكرارًا كيف أنها باعت إحدى القطع الذهبية العزيزة جدًا على قلبها لتشتري ثلاجتنا الفيلكو الكبيرة التي كانت تقف كملكة في صدر بهو فسيح يفتح على غرف النوم. وكتبتُ في هذا المكان قبل سنوات عن قصة الثلاجة التي كانت أمي تحبها حبًا جمًا وتعتبرها ملكية حصرية لها طالما أنها اشترتها من حُرّ مالها أو من حُرّ ذهبها بمعنى أدّق، وبلغ تعلّقها بثلاجتها حدًا دفعني ذات يوم للتفكير في أن أطرح عليها السؤال التالي: هو انتِ بتحبيني أكثر والا الثلاجة؟ أما فكرة اقتناء الذهب لتأمين مستقبل المرأة من غدر الزوج، فلا كانت هذه الفكرة موجودة في أسرتي ولا أظنها كانت موجودة على نطاق اجتماعي كبير حتى بدايات القرن الحالي، وذلك أن ظاهرة الطلاق وبالتالي فقدان الزوجة غير العاملة موردّ دخلها الأساسي لم تكن معروفة، وإن وُجدت هذه الظاهرة في إحدى العائلات فإنها كانت تُعد استثناءً وليس كما يحدث الآن حيث يُكتَب عقد الزواج على ورقة طلاق. وحول هذه النقطة تحديدًا كانت هناك جملة شهيرة عادة ما يقولها الآباء لبناتهم المقبلات على الحياة الزوجية: جوازنا جواز كاثوليكي، أي أنه لا يوجد طلاق في تقاليدنا الأسرية. ومع أنه لم يُقدّر لأمي أن تسمع هذه الجملة بنفسها لأن والدها كان قد توفّي وهي مازالت طفلة صغيرة، لكن المؤكد أنها كانت على علم بها ودام زواجها بأبي نصف قرن حتى راح لخالقه. كما أنني سمعتُ هذه الجملة من والدي يوم قراني ثم أردف قائلًا: بيتي مفتوح لك في كل وقت لكنه لن يكون بديلًا لبيتك. ومع أن هذه الجملة لم يكن فيها شيء جديد بالنسبة لي إلا أنني خُفت.

• • •

كانت قواعد توارُث الذهب في العائلات المصرية تقضي بأن يؤول الذهب كله للابنة. ومن المفهوم أن السبب وراء هذه القاعدة العرفية هو الحرص على ألا يذهب جزء من ثروة الأم لزوجة الابن، هذه المرأة التي مهما كانت علاقتها جيدة بحماتها إلا أنها ليست كعلاقة الأم بابنتها. والمنطق نفسه هو الذي يحكم عدم توريث الابنة في الصعيد حتى لا تذهب الأرض لزوجها. بمرور الوقت طرأ تغيّر على قاعدة توريث الذهب، وظهرت فكرة اقتسامه بين البنات والأبناء، ومن قبل أن يصل هذا التقليد إلى أسرتي كان قد بدأ يطبّق بالفعل في محيط المعارف والأصدقاء. فكرة توريث الذهب التي يتم التعامل معها بعادية شديدة تلقيتها بتثاقل شديد، لأن هذه الفكرة على الأقل في البدايات الأولى تمثّل اعترافًا صريحًا بالأمر الواقع فنحن لا نرث أحباءنا الأحياء. ومثل الوراثة في ذلك مثل لقب مرحومة الذي هوى على قلبي كمطرقة حين نطق به المعزون لأول مرة وكاد يُفقدني صوابي. ومع ذلك فإن في نصيبي من ذهب أمي ما ساعدني على الاستمرار في الشعور بأنها تونسني رغم غيابها، وقلل من المعادلة المؤلمة التالية: أنا أرث أمي إذن فهي غير موجودة. ضمن ما آل إليّ من ذهبها كان يوجد خاتم تحبه كثيرًا لسبب غير مفهوم، وحبُ الأشياء كحبّ الناس لا تفسير له، وفي هذا الغموض بعضٌ من جاذبيته. لم تخلع أمي هذا الخاتم من إصبعها على الأقل لمدة عشر سنوات، وعندما سألتها يومًا كيف لها أن تحتمل وجود دائرة كبيرة حول إصبعها طوال الوقت، ردّت عليّ بابتسامتها الوادعة بأن الخاتم زيه زي دبلة أبوكي ما أقدرش استغنى عنه.. وأفحمني ردها. هكذا صار خاتم أمي الحبيبة بين يدّي وفي حوزتي وضمن ممتلكاتي. رحتُ أتفحّصه بعناية كأنني أراه لأول مرة، ومع ذلك فلقد كان فيه بالفعل ما أراه لأول مرة. في تجويفه الداخلي كانت توجد بعض آثار الصابون العالقة، أو قل بعض أمارات نظافة أمي الشخصية التي كانت تحرص عليها إلى حدّ الوسوسة وتفخر دائمًا وهي تقول عن نفسها إنها فلّة. بدت هذه الذرّات البيضاء الملتصقة بالخاتم كأنها ذكرى فوق الذكرى، إنها ذكرى من صنع أمي.. فيها شئٌ من طبعها وتعبها وروحها وسرّها أيضًا.. نعم سرّها.. فهذا الغبار الذي يحتّك بجلدي كلما ارتديت الخاتم لن يراه أحد غيري، وسأحتفظ بيني وبين أمي بهذا السّر الصغير كما عودتّني هي طوال عمري أن تحتفظ لي بأسراري الكبيرة فما أن أسرّ بها إليها حتى تتدحرَج إلى بئر عميق ليس له قرار.

• • •

عجيب أمر هذا المعدن الأصفر الثمين الذي قُدّر له أن يلعب معي دورًا غير أدواره المعتادة في الزينة والتمايز وفك الكُرَب والأزمات.. إنه دور الوصل والونس والأُلفة وتجديد الذكريات، وهكذا تكون تلك هي المرة الثانية التي تنشأ بيني وبين الذهب علاقة خاصة ومختلفة، أما المرة الأولى فكانت أيام زمان حين شاركتُ مع العائلة في مشهد خطبة زوجي عمي.
نيفين مسعد أستاذة بكليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة جامعة القاهرة. عضو حاليّ فى المجلس القوميّ لحقوق الإنسان. شغلت سابقاً منصب وكيلة معهد البحوث والدراسات العربيّة ثمّ مديرته. وهي أيضاً عضو سابق فى المجلس القوميّ للمرأة. حائزة على درجتي الماجستير والدكتوراه من كليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة – جامعة القاهرة، ومتخصّصة فى فرع السياسة المقارنة وبشكلٍ أخصّ في النظم السياسيّة العربيّة. عضو اللجنة التنفيذية ومجلس أمناء مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت. عضو لجنة الاقتصاد والعلوم السياسية بالمجلس الأعلى للثقافة. عضو الهيئة الاستشارية بمجلات المستقبل العربي والسياسة الدولية والديمقراطية
التعليقات