«ألوان» طه.. و«معبد» حجازي - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
الأحد 12 مايو 2024 12:02 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«ألوان» طه.. و«معبد» حجازي

نشر فى : السبت 12 أغسطس 2023 - 9:45 م | آخر تحديث : السبت 12 أغسطس 2023 - 9:45 م
أتابع بإعجاب وتقدير كبيرين تلك الإصدارات التى تقدمها هيئة قصور الثقافة، فمن الواضح أن هناك رؤية تحكم الاختيارات والعناوين، وخطا واصلا بين الكتب، مهما تنوعت واختلفت موضوعاتها، ومهما جمعت بين القديم والحديث، وبين أسماء الرواد، واجتهادات وإبداعات الأجيال التالية.
هذا الخط يتمثل فى البحث عن القيمة، والعناية بكل تيارات التنوير والاستنارة، وتقديم الأجمل والأنفع، والأكثر تحريكا للعقل.
إنها كتب مثيرة للسؤال، ترضى الفكر والفن على حد سواء.
وقد أمضيت وقتا ممتعا مع كتابين من تلك النوعية الفريدة، أولهما صدر عن الهيئة ضمن مشروع مؤلفات د طه حسين، وأعنى به كتاب «ألوان»، الذى جمع فيه المفكر العظيم مجموعة من مقالاته الهامة، المنشورة فى مجلة «الكاتب المصرى»، التى ترأس تحريرها، وكانت من أبرز مجلاتنا الثقافية.
أما الكتاب الثانى، فقد صدر فى سلسلة ممتازة هى «كتابات نقدية»، بعنوان «فى معبد الفنون»، للشاعر الكبير أحمد عبدالمعطى حجازى، الذى أحسن صنعا بجمع بعض من مقالاته النقدية الهامة، التى تتناول فنونا شتى، من العمارة والتصوير، إلى الغناء والمسرح والسينما.
المدهش حقا أن هناك تقاطعا بين الكتابين، رغم اختلاف الأجيال، بين عميد الأدب، والشاعر الكبير، فحجازى فى مكانة التلميذ من د طه، ولكن يمكن القول إن ما غرسه د طه، قد أثمر وأينع مع جيل حجازى، وسنرى الشاعر، وهو يخصص فى كتابه مقالات عن تمثال طه حسين البائس فى ميدان الجلاء، ويحكى عن العميد بمنطق العارف والمقدر والمفتون، بل إن منهج الشاعر فى نقد التمثال الضئيل يرتبط أساسا بعدم تعبيره عن قيمة د. طه، فكأن النحات لا يعرفه، ولم يقرأ له، أو قرأ له، فلم يستوعب منجزه، ولم ير فيه إلا الشكل والمظهر، ثم نحته بحجم لا يتناسب مع تماثيل الميادين.
بين كتاب العميد والشاعر ما هو أهم وأعمق، إنه الحوار مع الفكرة، والنظرة النقدية الواعية والعميقة، وبراعة الالتفات إلى ما وراء الصور والرموز والنصوص، ولمسات المقارنة المدهشة، والجمع بين الثقافة العربية، والانفتاح على أفضل ما قدمته حضارة أوروبا، وتقديم كل ذلك بسرد متدفق، أنيق العبارة، قوى الحجة والمنطق، يأخذ باهتمام القارئ من البداية حتى النهاية.
نعرف أستاذية العميد، وجاذبية موسيقى كلماته، فكأنك تسمعه مكتوبا، ولكنى تأملت فى «ألوان» ميزة فريدة، تجعلنى أقول إن د. طه كان حكاء، حتى وهو يكتب نقدا فذا محيطا بموضوعه، وعارفا بتفاصيله.
لقد نجح فى تحويل المقال النقدى إلى قصة سردية، تستمد متعتها من طريقته الحكائية، فيحدثك عن كافكا وسارتر وبول فاليرى وأبى العلاء، وكأنه يحكى لك عن صديق عرف أخباره، ويرى فى سيرته، وأفكاره، ما لا تستطيع أن تراه.
أما حجازى، فإن نثره عذب الموسيقى مثل شعره، لا ثرثرة عنده ولا إسهاب، مع بناء محكم، ولمسات ساخرة فى موضعها، وأحكامه، مثل كل حكم نقدى ناضج، هى مزيج من الذوق والثقافة معا.
هو المصرى الذى يضرب بجذوره فى التاريخ، ولكنه ابن العالم المعاصر، حساسية الشاعر تأخذه إلى نظرات عميقة فى الفنون، وحديثه عنها ينضح بالعرفان والامتنان، وكيف كان يمكن أن يصبح شاعرا من دون أن يتذوق عبدالوهاب وأم كلثوم، ومن غير أن يعرف لذة المسرح، وبدون أن يختبر بهجة تشكيل الطين فى سنوات الطفولة؟
الأستاذ والتلميذ يفتحان للقارئ، بدون اتفاق، أبواب متعة الأدب والفن، ويخاطبان فيه القدرة على التذوق والتفكير النقدى الحر. درس العميد، الذى استوعبه الشاعر، أن المعرفة ضالة المتذوق، وأن التراث الإنسانى الغربى والغربى منهل عذب، تأخذ منه على قدر ما ترتوى.
فى كتاب «ألوان» مجموعة من الدراسات المذهلة. أعتقد مثلا أن ما كتبه طه حسين عن كافكا من أعمق وأفضل ما قرأت عن هذا الأديب، وأن نقد طه حسين لرواية «الطاعون» لألبير كامى، من أذكى وأبرع ما كتب عن هذه الرواية، وشرح العميد لمفهوم «الالتزام» عند سارتر، وربط كل ذلك بمعنى «الالتزام» فى تاريخ الآداب العربية والغربية، من أمتع ما يمكن أن يقرأ فى هذا الباب.
ومقالة العميد عن الأدب المتشائم عموما، أو ما يطلق عليه «الأدب الأسود»، وربط هذه الظاهرة بظروفها الاجتماعية والنفسية، من أفضل ما يمكن أن يقال ويدرس فى الجامعات المعاهد، سواء من حيث المنهج أو الأسلوب أو البناء أو الحجة والدليل.
وسيدهشك أحمد عبدالمعطى حجازى بفهمه العميق لمسرحية «شمس النهار» للحكيم، ولأعمال وأسلوب النحات مكرم حنين، وبذائقته الرفيعة وهو يحلل أغنية «رق الحبيب»، أو وهو يستقصى جانبا من موهبة عادل إمام، أو عندما يلتمس تقاطعا بين مسلسلى «العائلة» و«أرابيسك»، ودراما وشخصيات وحيد حامد، ودراما وشخصيات أسامة أنور عكاشة.
يجوز لى، وقد كنت أتبادل قراءة الكتابين ساعة وساعة، أن أعتبر كتاب «ألوان» قراءات لمختارات فى معبد الفكر والأدب، وأن أرى فى كتاب «فى معبد الفنون» ألوانا من الحوار الخلاق مع التمثال والأغنية والعمارة والمسرحية والمسلسل، ويجوز لى أن أثمن فكرة أن تجمع المقالات جنبا إلى جنب، فتصنع جدارية كبيرة، بدلا من تركها بين صحفات الجرائد والمجلات.
أتمنى أيضا أن تكون هذه الكتب جزءا من قراءات الطلاب فى المعاهد والجامعات. لا أعرف الصيغة أو الطريقة، ولكنى أرى فى تلك الكتابة النقدية العميقة، جميلة الأسلوب، النموذج الأمثل والأفضل لتذوق الآداب والفنون، والطريق الأعمق أثرا فى اكتشاف الجمال.
فى تلك الكتابات جوهر النقد، فالمسألة ليست معادلات رياضية، ولا هى تقطيع لأوصال العمل الفنى والأدبى، ولكنها بحث عن الروح والمعنى، والانطلاق منهما إلى التفاصيل. بدون ذلك، يتحول النقد إلى كلام أجوف، وثرثرة فارغة.
كل التحية لجرجس شكرى أمين عام النشر بهيئة قصور الثقافة على هذه الكتب العظيمة.
محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات