«عين شمس 1995».. ثنائية الأحلام والهزائم - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
السبت 11 مايو 2024 4:27 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«عين شمس 1995».. ثنائية الأحلام والهزائم

نشر فى : السبت 10 فبراير 2024 - 7:35 م | آخر تحديث : السبت 10 فبراير 2024 - 7:35 م
سعادتى بهذا الكتاب كبيرة، فمنذ أن بدأت فى قراءته، لم يفارقنى حتى أنهيته فى فترة وجيزة، أما بمعيار الأثر، فهو من أكثر الكتب التى لمستنى فى العمق، ولذلك أسباب كثيرة موضوعية وشخصية، تجعلنى أعتبره من أفضل وأهم الكتب عموما فى السنوات الأخيرة.
الكتاب الصادر عن دار الكتب خان بعنوان «عين شمس 1995 وهزائم أخرى»، من تأليف المخرج التسجيلى باسل رمسيس، وصدر فى إطار سلسلة فريدة تحمل اسم «بلا ضفاف»، يمكن اعتبارها نصوصا عابرة للأنواع، تبتكر معالجات متنوعة، فى محاولة لاستيعاب خبرات وتجارب وإنسانية عميقة، عبر حرية السرد، أو تداخل الأشكال والقوالب.
لو سألتنى مثلا عن تلك النصوص التى كتبها باسل، ووصفها هو بأنها «حكايات تسجيلية»، أدخل عليها بعض الروائية، لقلت لك إنها «سردية الذاكرة» بامتياز، ولكنها ليست سيرة ذاتية بالضبط، وإن كان يحكى مؤلفها بتدفق عن سنوات الدراسة فى جامعة عين شمس فى بداية التسعينيات، وعن فترة الانتماء للعمل السرى الشيوعى، وعن الأب الذى دفع ثمن انتمائه السياسى، وعن الأم التى ساندته حتى النهاية، وعن زملاء الدفعة والألم، وعن شخصيات كثيرة مهمة ومؤثرة عرفها، مثل هانى درويش وأروى صالح، وعن الجيل المحشور بين هزائم الأمس واليوم.
كل ذلك حاضر فى الكتاب، بتفاصيل عين فاحصة، وعبر سرد جذاب، وبمزيج مدهش من الحنين والمراجعة، ولكن الكتاب المتفرد عندى أهم من ذلك، لأن باسل يقوم بقراءة الذاكرة عبر ثنائية الأحلام والهزائم، وليس عبر الهزائم فقط كما كتب فى العنوان.
ربما كان وجع الهزيمة أكثر حضورا، ولكن هذه الكتابة ظلت، لا شعوريا وبالضرورة، ترسم لوحة الهزيمة فوق لوحة الحلم الأصلية، فإذا خدشت لوحة الألم بالأبيض والأسود، لظهرت الأحلام أسفلها، بألوان باهتة، ولصرنا أمام أبطال تراجيديين فى كل مكان، دوافعهم نبيلة، وأخطاؤهم قاتلة، ولكن أحلامهم كانت تستحق المغامرة والمجازفة.
هذا سر الكتاب البديع: شجن وحنين رغم التسليم بالواقع المؤلم، واعتزال باسل العمل السياسى، بعد القبض عليه فى العام 1995 فى أعقاب اعتقاله، وسط مظاهرات شبابية عارمة، ضد مشاركة إسرائيل فى المعرض الصناعى، لم يمكن أن يكون اعتزالا للأفكار التى يؤمن بها، فقد تحولت الدفة إلى السينما، وأسئلة العدل والحرية والانحياز للبشر العاديين، وأوضاع المهاجرين والأحلام المجهضة حاضرة فى رحلاته، فى السودان وكوبا وإسبانيا، فى حديثه عن كل دون كيشوت عرف حكايته، وحتى فى انحيازاته للمدينة التى تدمرها الجسور، ويكتسحها تنين ديانيريس.
وراء تفصيلات الواقع تحية غير مقصودة للحالمين، لمن يعرفون أن المأساة قادمة، ولكنهم يسيرون حتى النهاية، ولا يمكن فصل هذا المزيج أيضا عن تلك البطاقات المرقمة، التى تتخلل السرد، بقصص أفلام، روائية وتسجيلية، مصرية وأجنبية، ذات صلة بالحكايات.
السينما هى الواقع مرة أخرى، ولكن عبر رسائل غير مباشرة، هى الحلم والنظرة النقدية معا، وهى الذاكرة الباقية الشاهدة، سواء على سنوات التسعينيات فى مصر، أو على سنوات حكم كاسترو فى كوبا.
كل ما فى الأمر أن الحلم المصرى المجهض، قد صار حلما إنسانية عاما، والرومانسية التنظيمية، وصحف الحائط، وصرخات التظاهر، قد تحولت إلى لافتة كبيرة بحجم التجربة الإنسانية.
بدون قصد، صرنا أمام خيط خفى يصل بين أحلام أروى صالح المبتسرة، وبين حرب الروائية الإسبانية ألمودينا جراندز ضد الفاشية، وبين معارك شادى عبدالسلام فى سبيل تحقيق أفلامه.
الشكل بحريته وتداخل الواقع مع الشاشة صار أيضا هو المضمون، وكأنه رد «الجيل» على القيود والهزائم، وعنوان التمرد على الورق:
فلتتسع السطور، عوضا عن ضيق الهوامش، ولتصبح مجلات الحائط، ولحظات الفراق، ساحات بحجم ميادين العالم، ولتكن مواجهة الهزيمة، واستحضارها، وعملية نقد الذات، ومراجعة الأمس، دليل بقاء ونضج، دون تنازل عن تسجيل المرارة، فهى أيضا كبيرة، بحجم ضخامة الأحلام.
لعلها أيضا، لا شعوريا، مواجهة غير العادى، للعادى والمألوف، الفرد كعالم مستقل، ليس على صواب بالضرورة، فى مواجهة الكليشيهات كلها، الشخص المجهول فى مواجهة «الأخ الكبير»، وفى مواجهة الذات وتناقضاتها، وبتكنيك شديد الثراء رغم بساطته، حيث يمتلك باسل قدرات سردية ونقدية وتحليلية ممتازة، تجعلنا نندهش لأنه لم يكتب رواية، أو لأنه لم يقدم مؤلفات نقدية، سواء فيما يتعلق بالنقد التطبيقى، أو بالنقد الثقافى.
تأثرت كثيرا يا باسل لأننى أنتمى إلى جيل أسبق بقليل من جيلك، ولأننى عشت سنوات التسعينيات فى قلب الشارع، ولأن روايتى الأحدث «أشباح مرجانة» أهديتها إلى جيل التسعينيات، مروضى الأشباح والكوابيس، ولأن هذه الرواية عن العام 1992، وعن السينما كساحة للواقع وللخيال معا.
تأثرت يا باسل لأن روايتى سؤالها هو: «لماذا تتحول أحلامنا إلى كوابيس؟»، وهو أيضا السؤال الضمنى لسرديتك، دون أن نمتلك الكثير من الإجابات، ولكنها على الأقل محاولة للتوصيف، لا تتعلق فقط بجيل التسعينيات، ولكنها تتعلق بأجيال كثيرة، إنه أيضا سؤال جيل والدك، وربما يكون سؤال أجيال أسبق، وأجيال تالية.
وإذا كان الكتاب يبدأ بالحديث عن الكلاب السلوقى، التى تسخر فى المسابقات، وفى صيد الأرانب، والتى تؤدى عملها بكل إخلاص، ويكون الثمن فى النهاية، أن تتحول هى نفسها إلى صيد يتسلى به الصيادون، فإن هذا المجاز يبدو رثاء قاسيا لأجيال الأحلام والكوابيس، مع التسليم بتقاطع حقيقى على مستوى الواقع، فلا رحمة فى عقاب الحالمين فى كل العصور والأزمان.
ولكن تفكيك هذه الصورة القاسية يجعل غضبنا ضد الصيادين، وليس تجاه المخلصين. ربما كان الحالمون مسئولين بسذاجتهم عن الخديعة، وعن عدم إدراك المسافة الكبيرة بين الرغبة والقدرة.
ولكن بقاء الحكاية يؤكد أن الحالمين حاضرون على الأقل على مستوى الذاكرة، مثلما يقول المركب الورقى على الغلاف إنه مصغر مراكب الواقع.
شكرا باسل على تخليد الأحلام عبر أقسى الهزائم.
محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات