«وكسة الشاويش».. تهشيم صورة الأب - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
السبت 11 مايو 2024 11:49 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«وكسة الشاويش».. تهشيم صورة الأب

نشر فى : السبت 9 ديسمبر 2023 - 8:40 م | آخر تحديث : السبت 9 ديسمبر 2023 - 8:40 م
تشغلنى كثيرا صورة الأب فى الأعمال الدرامية والروائية والقصصية المصرية، بالتحديد عن فترتى الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين.
كنت، وما زلت أراها تحمل دلالات كثيرة، تتجاوز مكانة الأب العائلية، سواء قصدها الكتاب المؤلفون أو لم يقصدوها، فالنص لا يعكس فقط الأفكار الشعورية لمن كتبه، ولكنه يترجم أيضا ما لا يمكن البوح به.
فى مقال قديم كتبته، تحدثت مثلا عن صورة «الأب» فى مسرحيات شهيرة جدا، هى الأنجح فى السبعينيات: «مدرسة المشاغبين» للمخرج جلال الشرقاوى، و«موسيقى فى الحى الشرقى» للمخرج حسن عبدالسلام، و«إنها حقا عائلة محترمة» للمخرج سمير العصفورى، و«العيال كبرت» لسمير العصفورى أيضا، و«شاهد ما شافش حاجة» للمخرج هانى مطاوع.
كلها بلا استثناء يمكن قراءتها من زاوية الصراع بين جيل متمرد، فى مواجهة سلطة «أبوية» تثير السخرية بسبب تصرفاتها، ونتيجة لمحاولتها فرض قواعد صارمة، مع أنها ليست أهلا للزعامة أو للقيادة.
صورة «الأب» هنا كاريكاتورية تماما، بينما يمكن أن نرى صورا مثيرة للرثاء فى كتابات أخرى، فلا أنسى مثلا قصة قصيرة ليوسف إدريس عن ابن يأخذ جثة أبيه معه فى السيارة لكى يدفنها، ولا صورة الأب التى رسمها صنع الله إبراهيم فى روايته «التلصص»، وصدمة الابن فى نهاية الرواية.
بسبب مكانة ودور الأب يمكن بسهولة أن يكون مجازا قويا لقوة السلطة أو انكسارها، وفيلم شهير عظيم مثل «سواق الأتوبيس» يمكن قراءته باعتباره انهيارا لسلطة القيم التى يمثلها الأب، والذى سيموت فعليا فى نهاية الفيلم.
وهذه النوفيلا الصادرة عن دار الشروق، بعنوان «وكسة الشاويش»، لمؤلفها القاص والروائى الراحل كمال رحيم، تبدو عملا هاما فيما يمكن تسميته بـ «سردية الآباء المهزومين»، ويمكن فهمهما على مستويات كثيرة، اجتماعية واقتصادية ونفسية، ولكن لا يمكن استبعاد المستوى السياسى أيضا، خاصة أن أحداث النوفيلا تدور فى عقدى الستينيات والسبعينيات، ومكان الأحداث مدينة بورسعيد، التى تم تهجير أهلها بعد فترة من حرب 1967، ومشهد التهجير بالذات من أبرز مشاهد النوفيلا، كما أن هناك إشارات تاريخية متفاوتة لا يمكن إغفالها، تم دمجها ببراعة وذكاء، على خلفية أحداث اجتماعية وعائلية، كأن يقول الراوى (بطل الرواية) مثلا: «يوم 28 سبتمبر 1969 هو أشد أيامى ظلاما»، وهذا اليوم بالتحديد (28 سبتمبر) يذكرنا بيوم رحيل الزعيم/ الأب عبدالناصر، ولكن فى العام التالى (1970). لا يمكن أن تبعد ذهنك أيضا عن استخدام تعبير «وكسة» فى عنوان النوفيلا، الذى يستدعى بالقطع كلمة «نكسة»، فهما على نفس الوزن، بل إن رحيم يستخدم أيضا كلمة «نكسة» فى ثنايا النص، وصفا لهزيمة 67. والحقيقة أن بناء السرد كله قائم على التوازى بين «وكسة» الأب الشاويش، و«نكسة» البلد.
ولكن الأب فى هذه السردية، ذات البساطة الخادعة، صورته معقدة إلى حد كبير، فهناك الأب الشاويش الطيب ضعيف الشخصية حسان العطفى، والأب البديل زوج الأم وعشيقها التاجر الثرى زكريا الفار، والابن عادل ممزق فى هذه العلاقة الملتبسة، خاصة أنه سيعرف بالصدفة، من خلال حوار أمه وداد مع عشيقها زكريا، أنه ابن زكريا، وليس ابن حسان الذى يحمل اسمه.
الأب إذن انشطر إلى صورتين مأساويتين: أب طيب يثير السخرية، كشاويش منزوع السلطة، يأكلون ميراثه، وتهينه زوجته، وتخونه أيضا، ولكن ابنه عادل يحبه، ويرثى له طوال الوقت، واعيا بوكسته، ومصمما على الانتقام له من أمه وداد وزوجها زكريا.
وأب آخر حصل على كل شىء، واتسعت أعماله، وهو فى الغالب الأب البيولوجى لعادل، ولكنه لص وفأر حقير، لا يثير فى نفس عادل سوى الاحتقار والاشمئزاز، والرغبة فى الانتقام، الذى يتحقق فى صورة محاولة لقتل الأم وزوجها معا.
هذه صورة أكثر تراجيدية تتم بذكاء على مستويين أجيد صنعهما: مستوى واقعى تماما، بتفصيلات العلاقات، وبرسم ممتاز للشخصيات الأربع المحورية: حسان وعادل وزكريا ووداد، وبرسم أجواء تلك الفترة فى بورسعيد، وباستغلال تيمة الزوج والزوجة والعشيق.
ثم ينفتح النص عبر هذا البعد الواقعى على دلالات رمزية، تنقل الهزيمة إلى نطاق عائلى، بحيث يمكن القول إن عادل، الذى ترك دراسته، وصار متهما بمحاولة القتل، هو ضحية تهافت حسان، وخيانة زكريا، وتهتك وداد، وهو غير قادر على تجاهل حسان الذى حمل اسمه، رغم إدراكه لتهافته، وغير راغب فى أن ينتمى إلى ما يمثله زكريا.
ومما يزيد من المأساة أن محاولة عادل لقتل أمه وزوجها لم تنجح، مثلما لم ينجح فى حياته العملية، فهو ابن الفشل، ومع ذلك ينتظر حكم المحكمة عليه فى محاولة القتل، ويدفع الثمن نفسيا وقانونيا واجتماعيا.
وانفجاره العنيف يحمل دلالة قوية بأن هذه الخيبات والوكسات، لن تمر دون فعل شديد القسوة، وهو ما تحقق أيضا على مستوى جيل الهزيمة، والأجيال اللاحقة له.
يمكن بذلك أن تستمتع بالنص حكاية اجتماعية محكمة من ملفات الجرائم العائلية الغريبة، تحليلا ودراسة وتأملا، ويمكن أيضا أن تراها مجازا لمأزق جيل الوكسة والنكسة، الذى اهتزت أمام عينيه صورة الآباء، الأصليين والبدلاء، بل واهتزت أمامه صورة الأم. وداد كما رسمها رحيم، نموذج غير مسئول ومؤلم، وأزمة عادل تجاهها تبدأ منذ الصغر، وتستمر معه، وتذكرنا على نحو ما بأزمة هاملت تجاه أمه.
لا وجود للقسوة الأبوية المباشرة فى النص، ولكن القسوة هنا ناعمة، فأن يكون الأب هزؤا وموضع سخرية من الجميع، لهى قسوة أشد وأكبر، وأن يكون الأب الآخر خائنا وانتهازيا، لهى مأساة مروعة، وعادل سيتمرد فى الحقيقة على كل ألوان القسوة المبطنة.
أما اسم كل شخصية فيعطى أيضا معنى ودلالة، ولذلك سيطاردك حقا هذا السؤال الصعب:
هل كان عادل المأزوم والمثقل بعار التهافت والخيانة والتهتك عادلا حقا فى انفجاره أم لا؟
محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات