ألعاب الذاكرة - داليا شمس - بوابة الشروق
الأربعاء 8 مايو 2024 10:59 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ألعاب الذاكرة

نشر فى : السبت 9 سبتمبر 2023 - 8:55 م | آخر تحديث : السبت 9 سبتمبر 2023 - 8:55 م
أسراب من النمل غارقة فى العسل. جثث سمراء صغيرة تطفو على سطح الإناء تعكر صفاء السائل اللزج. خانتهم الذاكرة ووقعوا فى الفخ، إذ لم يتعرضوا لمثل هذا الخطر من فترة. انجذبوا إلى طعم العسل المحبب لديهم وأخذوا ينهلون منه، وكان فى نيتهم أن يحملوا بعضه إلى ملكة المستعمرة، لكن القدر لم يمهلهم الوقت وغادروا الدنيا بعد أن استمتعوا قليلا بحلاوته. عادة النمل أن يتناول السوائل حيث وجدها أما المأكولات الصلبة فينقلها إلى بيته الذى يحتوى على سلسلة من الحجرات المتصلة تحت الأرض. العسل لم يفسد، بل يكفى التخلص من آثار الجريمة بواسطة ملعقة صغيرة، أما جيش النمل فقد لقى حتفه عن بكرة أبيه لأن الذاكرة لم تسعفه وتمكنه من الالتفاف حول الهدف الذى يستلزم بلوغه شيئا من المخاطرة. نسى أعضاء هذه المجموعة مصير زملاء وإخوة لهم، واندفعوا إلى داخل الإناء الزجاجى خلال ثوان معدودات، فهم يتعلمون بالتنفير والصدمات أى حين يجتازون تجارب مريرة سابقة. فى هذه الموقعة غدرت بهم الذاكرة وغلبتهم الشراهة.
• • •
صوت ليلى مراد وهو ينطلق من الراديو هذا الصباح ليس له الوقع نفسه، لأنها تردد أغنية «حيران فى دنيا الخيال، محروم من الذكريات». لم تكن هذه الكلمات تضايقها قبل أن تصاب أمها بالخرف. هى حتى لم تعد كمن يفقد ذاكرته ويحتفظ بهويته ويعجز فقط عن الاحتفاظ بالمعلومات الجديدة، بل امتدت المشكلات إلى الإدراك والتفكير، وبالتالى تدهورت الوظائف اليومية والقدرة على تسيير الأمور. صارت تتمنى أن يكون مرض أمها مجرد فقدان ذاكرة، على الأقل كانت الذكريات القديمة ستظل حاضرة راسخة فى ذهنها، وتنسى فقط ما الذى أكلته خلال الإفطار على سبيل المثال، لكن للأسف ليست هذه حالتها.
قَرَأتْ أن الذكريات طويلة المدى تنقسم إلى فئتين: ذاكرة قائمة على الحقائق مثل تلك المتعلقة بالأسماء والأماكن والأحداث، وأخرى غريزية تختص بالعواطف والمهارات. اكتشف العلماء أخيرا أن هذه الذاكرة الغريزية يمكن تعديلها بواسطة بروتين يسمى «العرقوب» يعمل كداعم للمستقبلات التى تحدد مدى قوة الاتصال بين الخلايا العصبية المختلفة، فأى تراجع فى هذا البروتين قد يساعد فى محو وتعديل بعض الذكريات والصدمات. رحم الله والدتها من كم هائل من الذكريات الموجعة، فلا شىء يرهق الدماغ ويدمره أكثر منها.. تستوطن الرأس وترفض المغادرة، حتى لو حاول البعض التظاهر بالتناسى. لسنوات ادعت السيدة التى خانها عقلها أنه يمكنها تجاوز قسوة الأيام بكذب أبيض مزعوم، لكن فى النهاية انمحى كل ما فى الصندوق الأسود بحلوه ومره. تستطيع الابنة اليوم التكهن بما كانت ستود حفره فى جمجمتها للأبد وما كانت ستسعى جاهدة لمحوه أو تعديله.
• • •
على طريق العودة للبيت كل يوم، تتفاجأ أن جزءا من الحى قد اختفى. الشوارع الجانبية، تلك الجيوب السرية للمدينة تفقد بعضا من خباياها. يقولون إن للأماكن ذاكرة وإن الجدران تحمل ملامح من عاش فى كنفها. تحب كثيرا النصوص التى تصف علاقة الناس بالمكان، فهذا الأخير مثل البشر له طبائع وأحوال مختلفة، مكان واجم حزين، ومكان يضفى فرحا على من فيه ويعيد الدفء إلى الروح، ربما لأنه يذكرنا بأشخاص كانت لهم معزة خاصة أو تركوا فينا أثرا طيبا. أزقة وحوارٍ وميادين لها روائح، فهناك رائحة لأحياء شعبية بعينها وأخرى للصحراء وثالثة للمدن العتيقة المزدحمة... تتجول فى المدينة كصعلوك يتنقل بين الأزمنة بمنتهى الحرية: قاهرة إسلامية بمآذنها وقبابها، وأخرى خديوية بطرازها المعمارى الكولونيالى وشوارعها المحفوفة بالأشجار، وأحياء لا معنى لها، وعشوائيات تلهث وراء لقمة العيش، وفى الخلفية ضجيج دراجات نارية ودخان وأفراد يمضون إلى حال سبيلهم، صارت ضمائرهم وذاكرتهم مخرومة مثل «الشكمان» الذى يتسرب منه العادم. أين ستذهب الذكريات والأصوات حين يتغير السكان؟ هل ستظل أصداؤها تتردد فى جنبات المكان بعد أن نغادره؟ أم حُكِم عليه أن يكون دائما مهددا بالنسيان؟ سؤال الذكريات يطرح نفسه فى مواجهة ما نشهده من هدم للذاكرة، وتحوم فى الرءوس عبارات محمود درويش حول «خوف الغزاة من الذكريات»، و«خوف الطغاة من الأغنيات».
• • •
تخيل جورج أورويل فى روايته العبقرية «1984» أن حكام بلد ما يحاولون تغيير التاريخ وتكييفه لمصلحتهم، فالشعار الذى اتخذوه لحزبهم السياسى يقول: «من يقود الماضى يقود المستقبل، ومن يقود الحاضر يقود الماضى»، لذا عهدوا إلى وينستون، الشخصية الرئيسية فى الرواية، بمهمة حرق وتدمير الأرشيف وإعادة كتابة بعض الوقائع ومحو تفاصيل أخرى لإضفاء الشرعية على النظام وأفكاره. ولأن وينستون «وزير الحقيقة» يعرف مدى تأثير الذاكرة الجمعية على ذكريات الأفراد، أراد أن يحتفظ لنفسه بما هو شخصى وقرر أن يسجل يومياته. أراد أن يحتفظ بذاكرته هو دون تزييف، بذلك المكان الصغير الذى يستوعب تأويلات الحياة رغم هشاشته، بعيدا عن الأوضاع الطارئة كالمرض والديكتاتورية. وحين اكتشفوا أمره أخضعوه لعملية غسيل مخ، كى تنطبق عليه المواصفات التى وضعوها للشعب، مراهنين على أنه بمرور الزمن لن تتبقى سوى هذه الذكريات التى فرضوها، إذ تعتمد السلطة على النسيان والتبديل الذى يصيب ذاكرة الجماعة، وهو أسوأ ما يمكن أن يحدث، فتدمير الذاكرة يعد من أدوات الحرب وأحد أخطر أسلحتها.
التعليقات