فى قيمة ومعنى المؤرخ «المثقف» - إيهاب الملاح - بوابة الشروق
الخميس 9 مايو 2024 10:18 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

فى قيمة ومعنى المؤرخ «المثقف»

نشر فى : السبت 8 أكتوبر 2022 - 6:25 م | آخر تحديث : السبت 8 أكتوبر 2022 - 6:25 م

ــ 1 ــ
.. وأواصل الحديث عن المؤرخ المثقف الراحل الدكتور قاسم عبده قاسم (1943ــ2021) الذى حلت ذكرى رحيله الأولى فى الأسبوع الأخير من سبتمبر الماضى، وأنا ممن يؤمنون بضرورة الإلحاح وتجديد التذكير بقيمة وأهمية أعلامنا المعاصرين فى كل المجالات، أومن بضرورة إنعاش «الذاكرة الثقافية» لأبناء هذا الوطن وهذه الثقافة حتى لا نفقد البوصلة ونتيه فى عدم وعبث وخواء، أظننا نتعذب فيه ونقاسى منه بصورة لم يسبق لها مثيل!

ــ 2 ــ
وإذا كنت قد توقفت قليلا أمام القيمة الكبرى التى جسدها د. قاسم فى حياته، والأدوار التى لعبها ومارسها بكفاءة واقتدار فيما يمكن أن نصفه بالنموذج الحقيقى لـ«المثقف العضوى» (بحسب المفكر الإيطالى الشهير أنطونيو جرامشي)، فإن من المهم أيضا وفى السياق ذاته، إلقاء ضوء ولو بسيط على بعض ما قدمه الدكتور قاسم فى مجال الدرس التاريخى وحضوره الباهر، تدريسا وتأليفا وترجمة ومحاضرة.. إلخ، أشكال النشاط الفكرى والمعرفى والثقافى التى أداها باقتدار، وعلى خير ما يكون طوال حياته.
ولعل إنتاج الدكتور قاسم عبده قاسم فى مجال التأليف والترجمة التاريخية، بل أزعم أيضا كل أشكال المعرفة المتصلة بالتاريخ (نظريات ومناهج، تأريخا وتحليلا، أدبا وفولكلورا وثقافة) يشهد بأنه بلغ الذروة فى الوصول إلى قمة ما يتمنى أو يصبو إليه أى باحث أكاديمى متخصص أو مؤرخ محترف أو مترجم توفر على نقل عيون «الثقافة التاريخية» المنهجية المعاصرة إلى اللغة العربية.
أتصور أن إحصاء بسيطا للكتب التى ألفها الدكتور قاسم أو ترجمها أو شارك فى تأليفها قد ترهق صاحب المحاولة بل قد تصيبه بدوارٍ حقيقى من كثافة المجهود والبحث الذى سيبذله لملاحقة هذه العناوين التى ربَت على المائة والخمسين إن لم تزد على ذلك!
ليس هدفى الحصر والإحصاء والاستقصاء. أبدا! فهذا يفوق جهدى وطاقتى. إنما فقط أكتفى بإشاراتٍ ولمحات؛ مجرد لمحات لجهد عظيم وهائل وإنتاج لا تستطيع مؤسسات بأكملها لو توفرت على أن تنجزه فى مثل المساحة الزمنية والطاقة البشرية التى أنجزها بها الدكتور قاسم، لما أنجزت نصفه ولا ربعه حتى!
ــ 3 ــ
فى العام 2020 وقبل رحيله بنحو العام ونصف، عثرت بالمصادفة على سلسلة تسجيلات صوتية له بعنوان (تاريخ مصر الإسلامية من الفتح العربى حتى مجىء الحملة الفرنسية).. وكانت مفاجأة كبيرة ورائعة بكل المقاييس.
استمعت إليها كلها فى متعة وشغف؛ وأدركت أننى أمام ما هو أكبر من الكنز؛ أنت أمام معرفة حية ونابضة تغطى مساحة هائلة وعريضة من تاريخ مصر لا يمكن الإمساك بزمامها والإحاطة بأركانها وامتلاك مفاصلها إلا لمؤرخ ليس له مثيل؛ ومن يطاول قامة الدكتور قاسم عبده قاسم الذى يمثل إنجازه من وجهة نظرى ما يوازى إنجاز مؤسسات بأكملها دون أدنى مبالغة.
ما يزيد على عشر ساعات من المتعة والمعرفة التاريخية الدقيقة الموثقة؛ أستمع إلى الحلقات التى تم إلقاؤها بأسلوبٍ أقل ما يوصف به أنه أسلوب العلماء الأجلاء الثقات؛ أسلوب الأساتذة الكبار المتمكنين حينما يحولون المعرفة المحضة إلى عملية تلقٍ ممتعة؛ فيها التشويق والإمتاع والشغف والإفادة والوفرة المعرفية.
ومع كل تسجيلٍ أنتهى منه أتعجب وأضرب كفا بكف، وأتساءل وأنا أكاد أميز من الغيظ: إذا كان لدينا هذا الذهب الخالص فلماذا ترُكتِ الساحة لما يزيد على الأربعين سنة للفالصو والقشرة وكل المعادن الرديئة التى سادت وانتشرت ونشرت خرافاتها وأكاذيبها وأضاليلها التى كانوا يسمونها «التاريخ الإسلامى» أو «التاريخ الإسلامى من وجهة نظر إسلامية!».
ولا يعرف العوام والمبتدئون ومتوسطو المعرفة سوى أسماء لا علاقة لها بالعلم أو بالمعرفة التاريخية المنهجية أو بالبحث التاريخى الموثق.. إلخ، هؤلاء الذين يدَّعون كذبا وبهتانا أنهم يقدمون «التاريخ الإسلامى» وأنهم علماء ومؤرخون وهم فى الحقيقة مجرد وعاظ وخطباء لا يعرفون للعلم المنهجى طريقا ولا سبيلا؛ والحقيقة أنهم مارسوا أكبر عملية تضليل وإفساد، وإهدار كرامة المنهج العلمى والبحث التاريخى على مذبح الأيديولوجيا الموجهة، وأفسدوا ملكات وعقول ملايين من البشر عبر كل هذه السنوات.

ــ 4 ــ
ما الذى يميز هذه التسجيلات الصوتية النادرة لأستاذنا الراحل د. قاسم عبده قاسم؟
أولا، تقدم هذه السلسلة المتصلة الممتدة قصة الوجود العربى الإسلامى فى مصر منذ ما عرف بالفتح العربى الإسلامى فى القرن السابع الميلادى، وحتى سقوط الدولة المملوكية على يد العثمانيين الأتراك فى الربع الأول من القرن السادس عشر الميلادى. وتختتم هذه السلسلة المذهلة بتسجيلٍ عن مصر تحت الحكم العثمانى وحتى مجىء الحملة الفرنسية.
ثانيا، وعبر ما يقرب من القرون العشرة، يستعرض الدكتور قاسم بأستاذية متمكنة، وخبرة تاريخية وافرة وتدفق مذهل ومعلومات موثقة تاريخ الدول والولايات الإسلامية التى نشأت على أرض مصر المحروسة، وبقدرة فذة على التكثيف والتركيز على الملامح والعناصر الرئيسية فى هذه الفترات، يعرض ملامح الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية لهذه الدول المتعاقبة وأسباب تشكلها وتحولات العالم المفصلية فى ذلك الوقت.
ثالثا، تستمتع بكل ذلك بيسر وسلاسة متناهية، وبأداء لغوى راقٍ وخفة ظل محببة، وسرد ناعم متصل لا انقطاع فيه ولا استطراد ممل ولا اختزال مخل ولا خروج عن الهدف الأساس من هذه المحاضرات (وهو الاستعراض التاريخى الخالص) لخطٍ موصول متصل عنوانه العريض «تاريخ مصر فى العصور الإسلامية»؛ وتحت هذا العنوان وبالقدر الذى يحقق الغرض منه يضىء الدكتور قاسم بمعْلَمَة تاريخ شخصية أو بلد أو يحقق حادثة بعينها أو يجلى مفهوما تاريخيا قد يبدو لغير المتخصصين مبهما أو غامضا، وفى ثنايا العرض يقدم تلك الإضاءات المركزة والمكثفة للدرجة التى تغنيك حتى عن الاستماع مرة ثانية وثالثة، لأنك تكاد تكون ممتلئا بالأثر المنطبع من الرواية التاريخية فى تسلسلها وترابطها واتصالها.