اعرف قبل أن تقول رأيا - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
الجمعة 10 مايو 2024 7:38 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

اعرف قبل أن تقول رأيا

نشر فى : السبت 8 يوليه 2023 - 7:50 م | آخر تحديث : السبت 8 يوليه 2023 - 7:59 م

قال صديقى الشاب متأففا:
«إننى لا أحترم الفن التجريدى، وأراه نوعا من النصب باسم الفن، مجرد كلام فارغ، وحماقة لا مثيل لها، عالم فاضية تقوم بالشخبطة فى أوقات الفراغ».
قلت له: «لابد أنك وصلت إلى هذا الرأى بعد أن قرأت عن هذا المذهب الفنى، عندى فضول كبير أن أعرف أسبابك، هذا أمر يستحق أن نتناقش حوله».
قال الصديق: «ولا قراءة ولا وجع دماغ.. أنا ضد التجريد والسلام.. ما هذا النصب العلنى؟».
لم يترك لى صديقى فرصة للمراجعة، ولم أتمكن حتى من أن أظهر دهشتى، أو أن أفسر له أننى لست منزعجا من رأيه، فمن حقه أن يحب ويكره، ويقبل ويرفض، ولكن دهشتى مصدرها أنه أخذ رأيا وموقفا، دون أن يعرف، فلا يمكن أن يكون هناك رأى جادٌ بدون معرفة.
ليس عيبا أن ترفض الأوبرا، أو الفن التجريدى، أو الكابوكى، أو أى فن آخر، ولكن العيب ألا تعرف شيئا عنه، وأن تحكم عليه بصورة سطحية، أو أن تعتقد أن صناع الفنون يضيعون وقتهم، ولا يعرفون ما يفعلون، ويمارسون النصب العلنى.
اعرف أولا ثم أنت حر تماما فى أن تحكم، ولن يكلفك الأمر كثيرا فى هذه الأيام، التى تتدفق فيها المعرفة عبر شبكة معلوماتية هائلة، صوتا وصورة ونصوصا وأفلاما ولقطات فيديو. هذا هو المنهج الصحيح: اعرف ثم احكم رفضا أو قبولا.
كثيرون يقولون إنهم ضد الموسيقى الكلاسيكية، ثم يحدثونك عن جمال موسيقى أفلام الأبيض والأسود، وهم لا يعرفون أن هذه المقطوعات المصاحبة لأفلام مصرية شهيرة، هى أصلا أجزاء من سيمفونيات أو مقطوعات موسيقية عالمية، وكثيرون لا يعرفون أن الجملة الشهيرة فى حلقات «ألف ليلة وليلة» المصرية، مأخوذة حرفيا من متتالية «شهر زاد الشهيرة» للموسيقار الروسى ريمسكى كورساكوف.
صديقى الذى رفض الفن التجريدى، لا يعرف أن تبسيط الأشكال، وتحويل التفاصيل إلى خطوط، يهيمن على علامات بصرية كثيرة تطارنا فى كل مكان، ولكننا نستوعبها، ونتعامل معها: فى إشارات المرور، وفوق الأبواب، وفى الإعلانات. التجريد موجود حولك فى كل مكان، ولكنك لم تأخذ بالك.
عندما ينعكس النور فوق مياه النهر، تختفى التفاصيل، وتتحول المياه إلى خطوط مهتزة، وعندما تلقى فى الماء بحجر، تتكون دوائر هندسية عجيبة، وكأنها رسمت بالبرجل، بيد فنان تجريدى، وعندما ننظر إلى صورة أشخاص بعيدين جدا، فى مدرج كبير، وسط استاد ضخم، تختفى تفاصيلهم الواقعية، ويتحولون إلى نقاط صغيرة ملونة.
لم يأخذ صديقى باله أنه هو نفسه، فى سنوات طفولته الأولى، كان يرسم بشكل تجريدى، دون أن يعرف!
كلنا كنا هذا الطفل، الذى يحاول أن يرسم رجلا، فترهقه التفاصيل، فيلجأ إلى تحويل وجه الإنسان إلى دائرة، وعينيه إلى نقطتين، وشعره إلى خطوط متداخلة، وتبدو ساقا الرجل مثل خطين رفيعين، والشمس مثل كرة، تخرج منها عدة خطوط قصيرة.
التجريد فى كل مكان، نمارسه للتبسيط، ونقرأ دلالاته البصرية بسهولة، وإلا كيف نفرق بين علامة دورة مياه مخصصة للرجال وأخرى مخصصة للنساء مع أن العلامتين رسمتا بشكل مبسط ودون تفصيلات واقعية كاملة؟
نشعر بالخطوط التجريدية ونتذوقها فى لوحات بيكار، الذى يلجأ دوما إلى تلخيص الشكل المفصل إلى دوائر ومثلثات وكتل مصمتة، وتعجبنا بعض التكوينات فى الأفلام والمسلسلات، رغم أنها فى الحقيقة لوحات تجريدية صريحة.
كثيرون استوقفتهم لقطة من مسلسل «تحت الوصاية»، تصوير بيشوى روزفلت، وإخراج محمد شاكر خضير:
كان المشهد عن لحظات بهجة ورقص وسعادة تتذكرها منى زكى، وقت أن كانت متزوجة، إنها تحتفل مع زوجها وأسرته على مركبهما، وسط الرقص والغناء، ثم تأتى لقطة من أعلى للمركب المضىء، وسط بقية المراكب المضيئة، فتبدو جميعا من أعلى، مثل أسماك ضخمة منيرة، على خلفية المياه السوداء المظلمة.
هذه اللقطة لوحة تجريدية خالصة، أدمجت بمهارة وسط لقطات واقعية، وهى ليست لوحة متنافرة مع المكان، ولا مع المهنة، وتجريد هيئة المراكب من أعلى، وتحويلها إلى خطوط مقوّسة تشبه الأسماك، هو جزء من أجواء الحكاية، فالصراع سيدور حول المركب، ومنى زكى تساعد زوجها فى الصيد، وبعد وفاته، ستهرب بالمركب، ثم تستخدمه فى دمياط لصيد الأسماك.
كثيرون استوقفهم مثلا مشهد مهم فى فيلم «الناصر صلاح الدين»، تصوير وديد سرى، وإخراج يوسف شاهين، وهو مشهد مجزرة الحجاج، الذى يقدم من خلال عيون الفنان حسين رياض.
المشهد يأخذ تفصيلات واقعية، مثل صلاة الحجاج، ومشاهد الخيول، ولقطات قريبة لطعنات بالحراب والسيوف، ولكنه سرعان ما يقدم لوحات تجريدية، حيث تذوب التفاصيل تحت سطوة سيف طويل، ونشاهد مساحات من الدماء الحمراء، ثم قطعات متتالية بين الأبيض والأحمر، فى تعبير تجريدى كامل عن المأساة: ملابس الحجاج البيضاء، وقد صارت دماء حمراء.
التفصيلات الواقعية انتهت إلى تجريد خالص، وشاهين لا يحتاج إلى تكرار مشاهد الطعن والقتل، تعنيه النتيجة، فيملأ الشاشة بالأبيض والأحمر، بعد أن عرف المتفرج دلالة اللونين فى المذبحة.
صار اللونان علامة بصرية تنوب عن كل التفاصيل.
لو رجعتم إلى اللقطة السابقة لمذبحة الحجاج، لوجدتم شاهين يقدم أيضا مزجا تجريديا، فالقائد الصليبى صاحب فكرة المذبحة، يظهر أمام مجموعة من الشموع، وهو يتحدث عن خطته فى قتل الحجاج، فيمزج شاهين بين الشموع البيضاء، وبين لقطة بعيدة للحجاج فى المشهد التالى، وهم يقومون بالصلاة.
لم يكن ممكنا هذا الربط لولا اللقطة البعيدة للحجاج، التى محت تفاصيل الحجاج، وجعلتهم مثل شموع تصلى، فسهل ربطها بصريا بالشموع أمام القائد الصليبى.
هذه مجرد أمثلة للتجريد الذى نتذوقه دون أن نعرف.
أرجوك.. اعرف أولا، ثم احكم بعد ذلك.
وليكن ذلك منهجك عموما فى الحياة.

محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات