إدريس العظيم و«سرّه الباتع» - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
السبت 11 مايو 2024 6:52 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

إدريس العظيم و«سرّه الباتع»

نشر فى : السبت 8 أبريل 2023 - 8:00 م | آخر تحديث : السبت 8 أبريل 2023 - 8:00 م
«سرّه الباتع» واحدة من أشهر وأهم قصص يوسف إدريس، وكم أسعدنى أن يجد المسلسل الذى استلهم منها اهتماما كبيرا بقراءة النص الأصلى.
هذه واحدة من مباهج تحويل النصوص الأدبية إلى أعمال درامية، وليتها تعيد الاهتمام أيضا بكنوز القصة والرواية، ولدينا منهما زاد وفير، فتنقل الدراما التليفزيونية المصرية إلى آفاق أوسع من حكايات زوج الأربعة، وأمير الانتقام، والبحث عن الأبناء المخطوفين.
براعة «سرّه الباتع» الفنية تكمن فى تحليل أفكار مجردة مثل الأسطورة والإيمان والبطولة عند المصريين، من خلال تفاصيل حكاية عادية وبسيطة، تصل فى النهاية بين الذاكرة المنسية، والحاضر الغامض، بل وتكتشف جوهر الشخصية المصرية المعقدة، والحافلة بالتجارب والتناقضات.
يمكن أن تكتب دراسة اجتماعية ونفسية عن علاقة المصريين بالأولياء والمقامات، ويمكن أن تكتب دراسة تاريخية عن المقاومة الشعبية وأبطالها أثناء الحملة الفرنسية، ولكنك لن تحقق أبدا تأثير نص إدريس وحكايته، التى تجمع بين العالمين فى بناء واحد متماسك، بسيط ومركّب، تخرج فيه الأفكار من قلب الحدوتة، وتصبح فيه الشخصيات أهم من هويتها المحدودة، ويحل الماضى فى الحاضر، فكأنه وجود لا يفنى.
من حامد بطل القصة وراويها، إلى كشف سر السلطان حامد، الولى متعدد المقامات، نصبح مرة أخرى أمام رحلة «بعث عبر المعرفة».
لن يكتشف حامد المعاصر إلا بالسؤال والبحث فى الذاكرة، ودلالة تسميته على اسم صاحب المقام واضحة: هو امتداد له، وإن كان لا يدرك ذلك، ولا يعرف من الأساس حكاية صاحب المقام.
يدور البحث فى مصر طوال النصف الأول من القصة، وعبر مراحل عُمر حامد، إلا أن حل اللغز، يأتى عبر رسائل عالم فرنسى فى حملة نابليون إلى صديقه، وصدور كتاب يضم هذه الرسائل، ومن خلال ترجمة رسالة واحدة، يعرف «حامد المعاصر»، سر «حامد الماضى»، ويدرك معنى المقام، وسر الولاية والتمجيد.
إنه بعث جديد يشبه تفكيك ألغاز حجر رشيد فى الماضى، أو بعث آخر يشبه إدراك ونيس فى فيلم «المومياء» لشادى عبدالسلام، لما تحتويه توابيت المومياوات، والرسوم والتماثيل، من بقايا الذاكرة المنسية.
لكن نجاح يوسف إدريس الأهم والأعمق فى وضع البطولة الوطنية فى مقام القداسة الدينية، بدفن بطل شعبى عادى، أسفل قبة الولى، بل وتحويله إلى سلطان، ونثر أشلائه أسفل مقامات شتى، تحمل اسمه فى أماكن متعددة، وكأن إدريس يضع المصرى العادى فى مكانته المستحقة كصاحب المقام الأرفع والأقدس.
المفارقة أن حامد المعاصر لا يعرف ذلك، ويذكرنا ذلك بقصة شهيرة عظيمة أخرى لإدريس عن ذلك الرجل الذى يحمل «الكرسى»، المخصص لجلوس الآخرين، من كل شكل ولون، دون أن يفكر هو نفسه فى الجلوس على الكرسى، مع أنه ابن البلد، وصاحبها، وهو أيضا صانع كل الكراسى والعروش الفخيمة والمزخرفة.
العلاقة بين البطولة الوطنية والقداسة الدينية حاضرة بتنويعاتٍ كثيرة عند الشعوب الأخرى، والفرنسيون أنفسهم لديهم قديستهم الأسطورية جان دارك، التى خرجت من قلب حركة مقاومة الاحتلال الإنجليزى، وانتقلت من مقام النضال، إلى مقام القداسة والأسطورة.
ولكن الفكرة المصرية تتخذ طابعا أعمق، وتأخذنا مباشرة إلى أفكار أقدم، مرتبطة بمعنى البعث، وتستدعى كذلك شعار «الكل فى واحد»، وأوضح تجلياته الأدبية فى رواية «عودة الروح» لتوفيق الحكيم، التى ربطت بين ثورة 1919، وزعيمها سعد زغلول، وفكرة عودة الروح إلى الجسد الميت.
والبعث فى الحضارة الفرعونية فكرة محورية، وإلا ما كان تحنيط الجسد أملا فى تعرف الروح عليها.
كان مغزى رواية الحكيم العظيمة أن البعث يستلزم بطلا وشعبا (معا) فى لحظة تاريخية فارقة، ولذلك كانت رواية «عودة الروح» من أبرز ما تأثر به عبدالناصر من قراءات فى شبابه.
وأفكار مثل «البطل» و«الشعب» و«الموعد مع القدر» محورية فى خطابات عبدالناصر، وشعارات مثل «الكل فى واحد»، و«البعث الجديد»، أساسية فى تحليل تجربته.
إدريس قدم تنويعة أخرى بجعل حامد، ابن البلد، يقود المقاومة، ويدفع الثمن، وبجعل الناس تتمثّله، وتحميه، وتخلّده، وتجعله أسطورة، مثلما كان الفلاحون يهتفون: «فيفا زاباتا» فى الفيلم الشهير، ومثلما صرخ كل فرد: «أنا سبارتاكوس»، فى فيلم آخر شهير.
ولكن إدريس لم يتوقف عند علاقة البطل بالشعب باللحظة التاريخية، وإنما أخذ يعمق فكرته للبحث عن طبيعة الشخصية المصرية، عن هذا الجسد الضخم الغامض، والذى يبدو مستكينا ولا مباليا ولا منتميا، ولكنه يتحول فجأة إلى وحش ضخم، يثير الرعب.
بطل «سرّه الباتع» هو الشعب نفسه، وليس حامد القديم أو المعاصر، والبحث يدور عن سر هذا الشعب العجيب، الصامت والصاخب، والذى يبدو أفرادا منفصلين، منكفئين على أنفسهم، ثم يصبح فجأة، وفى لحظةٍ تاريخية ما، جسدا عملاقا، ويقدم نموذجا أسطوريا فى العمل الجماعى المنظم.
من الطبيعى أن يثير ذلك إعجاب العالم الفرنسى، القادم من أتون ثورة شعبية أفرزت «الجمهورية»، والمصطلح قادم أصلا من الجمهور والعامة وأبناء البلد، لكن إدريس لا يجعل من ثورة الشعب سببا وحيدا لافتتان العالم الفرنسى بالمصريين، وإنما يتأمل أيضا فكرة أعمق وهى الإيمان.
إدريس لا يعنيه المقام، ولا ما تحت القبة، ولكن يعنيه «إيمان الناس» بوجود بطل ومعجزة.
الإيمان هو الصخرة التى تسند هذا الجسد الهائل، وتجلياتها ليست دينية فحسب، ولكنها تأخذ أشكالا وألوانا متعددة.
هذا الشعب سرّه فى الإيمان بفكرة أو بشىء أو بوطن أو بعقيدة، وفكرة الإيمان فى نص إدريس الفذ تنتقل بسلاسة من المعنى الدينى إلى المعنى الوطنى. من الإيمان بمعجزات السلطان حامد، الدرويش الغامض، إلى الإيمان بمعجزة المناضل حامد، ابن البلد، صاحب مقام الخلود.
«سره الباتع» حكاية عميقة عن جوهر الشخصية المصرية، التى تحقق المعجزات إذا عرفت وأرادت وتوحّدت، وإذا استدعت البطولات من رماد المقامات.
محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات