ألوان أكتوبر.. ذاكرة شخصية - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
الأحد 12 مايو 2024 12:29 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ألوان أكتوبر.. ذاكرة شخصية

نشر فى : السبت 7 أكتوبر 2023 - 9:15 م | آخر تحديث : السبت 7 أكتوبر 2023 - 9:15 م
يتذكر رجل اليوم (أنا) طفولته عندما بدأت الحرب العظيمة، تدهشه التفاصيل المحفورة، يحمد الله أنه عاش وسمع ورأى، وسجل ودوّن عندما كبر، يستحضر بعض الحكايات بألوان العلم..
(1) أحمر
تصافح لوحة عملاقة مرسومة عينى الصغير الذى يدخل مدرسة الإصلاح الزراعى فى نجع حمادى، يرى جنديا يمسك بندقية فى يده، ويمسك بمفتاح إنجليزى فى اليد الأخرى، وأسفل الرسم المهيب عبارة: «يد تبنى ويد تحمل السلاح».
يصبح السلاح من عناوين القراءة، ومن حروف الهجاء، مثل النوافذ المطلية باللون الأزرق، والمدافع المضادة للطائرات فوق كوبرى نجع حمادى، وعلى أسطح المبانى، ومثل الخندق المحفور فى حوش المدرسة.
مثل صوت محمد الكحلاوى وهو يغنى فى جهاز التليفزيون الجديد: «لاجل النبى لاجل النبى.. تنصر بلادنا والنبى»، ومثل سيارات الجنود وهى تمر أمام منزله، فيهرع الصغير إلى البلكونة هاتفا وملوحا: «يا دفعة... يا دفعة»، فيرد الجنود التحية مبتسمين.
لا يعرف الصغير أصل الحكاية، ولكنه يدرك أن طاقة غضب ساطع، وبدايات معركة، تتجمعان فى أفق حزين.
لم ينس زيارات زوج عمته المجند إسماعيل عندما كانوا يقيمون فى شبرا، لم ينس جنودا يعبرون الشارع بزيهم المموه، فيقول والده: «دول صاعقة... بياكلوا تعابين»، ينظر الصبى فى ذهول، تحين التفاتة من العابرين، فيختبئ الصغير.
ينفجر بركان الغضب ذات يوم من شهر رمضان، يتغير العالم إلى اللون الأحمر، تنقش التفاصيل فى الذاكرة بإزميل الفرحة، يشاهد الصبى طابور المخبز وهو يوسع الطريق لكى يحصل بعض الجنود على ما يشاءون من مئونة، يرى فرحة، ويلمس تسامحا غير معهود من الكبار، يتذكر بث التليفزيون مقابلة مع الأسير الإسرائيلى عساف ياجورى، أول عدو يحفظ شكله، يحفظ مع زملائه نشيد «باسم الله» بعزف الأستاذ بهاء مدرس الموسيقى.
يردد أهزوجة تقول: «محمد أفندى رفعنا العلم/ وطولت روسنا ما بين الأمم»، ويهتف مع الأطفال فى الشارع: «موشى ديان كان جعان/ فتح الحلة لقى تعبان»، يستمع إلى تحذيرات أمه بألا يقترب من أقلام أو راديوهات ترانزستور ملقاة فى الشارع، لأنها متفجرات متنكرة.
يضحك من موال شكوكو الشهير: «مغرم صبابة يا بابا بتلت ستات/ بستة أكتوبر وسام ستة وست ساعات»، ويسعد كلما رأى سيد الملاح وهو يغنى: «تحية لجيشك يا مصر العظيم/ لأحمد وبطرس وعبدالعليم/ ولادنا اللى خلوا العدو اللئيم/ على أرض سينا يسف التراب».
يدرك الآن فقط أنها لم تكن مجرد حرب.
لقد شهد لحظة بعث وقيامة.
(2) أبيض
كبر الصبى، قرأ وعرف، وصار مفتونا بجمع تفاصيل الحرب، يقشعر جسده وهو يدون هذه الأرقام المذهلة عن العبور من مذكرات محمد عبدالغنى الجمسى، رئيس هيئة العمليات وقت بداية الحرب:
ــ أكثر من 2000 مدفع على طول جبهة القناة ومن مختلف الأعيرة شاركت فى قصف مركز لمدة 53 دقيقة بالضبط، وكان معدل القصف النيرانى شديدا بحيث سقط على المواقع الإسرائيلية فى الدقيقة الأولى من القصف عشرة آلاف وخمسائة دانة مدفعية، بمعدل 175 دانة فى الثانية الواحدة.
ــ كان لنا على الضفة الشرقية للقناة فى الدقائق الأولى للحرب 8 آلاف جندى مقاتل، وصلوا بعد ساعة ونصف فقط إلى 14 ألف مقاتل، وبعد خمس ساعات صاروا 33 ألف مقاتل، وفى صباح يوم 7 أكتوبر كان هناك 50 ألف مقاتل مصرى على الضفة الشرقية.
ــ استخدم فى اقتحام القناة 750 قاربا، وألف وخمسمائة من سلالم الحبال لتسلق الساتر الترابى، وخلال 8 ساعات فقط من الحرب، نجح المهندسون فى فتح 60 فتحة (ممر) فى الساتر الترابى، وتم إنشاء 8 كبارى ثقيلة، وبناء 4 كبارى خفيفة، وبناء وتشغيل 30 معدية.
ــ تسابق كبار الضباط مع الجنود على سرعة العبور، قادة الفصائل والسرايا عبروا فى الدقائق الأولى للحرب، وقادة الكتائب عبروا بعد 15 دقيقة، وعبر قادة اللواءات خلال 45 دقيقة، وعبر قادة الفرق خلال ساعة ونصف فقط من الحرب، وهذا يفسر ارتفاع نسبة الشهداء من الضباط فى بداية الحرب.
ــ كان رجال سلاح المهندسين الأبطال يعملون تحت قصف إسرائيلى شرس، وأجسامهم مغطاة بالطين، ومدافع المياه فى أيديهم لا تتوقف عن العمل، يسقط شهيد، فيحل محله آخر، استخدموا 350 مدفع مياه فى فتح الممرات.
ــ من أعظم ملاحم الحرب صمود رجال المشاة من 6 إلى 8 ساعات بمفردهم أمام الهجوم الإسرائيلى المضاد، انتظارا لوصول المدرعات والأسلحة الثقيلة العابرة.
لأول مرة فى التاريخ يصبح المقاتل الفرد فى مواجهة دبابة، ومن هنا أطلق على حرب أكتوبر (حرب اللحم فى مواجهة الصلب). نجح المشاة فى الصمود، وقاموا بتدمير مائة دبابة من 300 دبابة هاجمت بها إسرائيل.
(3) أسود
يتذكر الصبى صفحة حزينة ومؤلمة، تأكد خبر استشهاد المجند إسماعيل زوج عمته الحبيبة، عندما وصل إلى بيت جده فى القرية، كانت عمته الشابة تبكى وتلطم، وبقايا الطين الأسود تلطخ وجهها الأبيض، سمع لأول مرة النائحات اللاتى يرتدين الملابس السوداء، ويقمن بالعديد معا بصوت مؤثر.
ربما كانت عمته وقتها فى العشرينيات من عمرها، لديها طفلان صغيران، مصطفى وممدوح، لا تتوقف العمة عن البكاء، وصوت الندابات يكرر مثل كورس إغريقى: «كنت فين يا وعد يا مقدر؟ / كنت فى خزانة وبابها مسكر».
يتعرف الصبى فى ذلك اليوم الكئيب على وجه آخر للحرب، بخلاف الأغانى والأناشيد.
رفضت عمته الزواج بعد استشهاد زوجها، تخرج ولداها مصطفى وممدوح فى جامعة الأزهر، ظلت الشابة تزور مقبرة زوجها الشهيد فى الإسماعيلية، وتوفيت بعد أن اطمأنت على ولديها.
آلاف مثلها، من حفيدات إيزيس الصابرات.
المجد للشهداء، ولأمهات الشهداء.
محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات