أجمل وأعمق ما فى فن الرواية هو الطريقة التى تقدم بها النماذج الإنسانية، من كل الزوايا، من الخارج ومن الداخل، وبكل نقاط القوة والضعف، نحن فى الحقيقة نعرف أنفسنا بشكل أفضل، كلما قرأنا عملا لا يرى فى البشر كائناتٍ بسيطة، وإنما مخلوقات شديدة التعقيد.
وهذه الرواية وعنوانها «همس العقرب»، لمؤلفها محمد توفيق، والصادرة عن دار العين، لا يعلو صوتها، ولا تدين أو تتعالى على الطبيعة الإنسانية، وإنما تحاول أن تفهمها. ترسم الرواية، فى نفس الوقت، شخصياتها من الداخل، وتطرح من خلال ذلك أسئلة صعبة عن تناقضات تتصارع وتتشابك، وعن اختيارات أكثر تعقيدا مما نظن.
تنفذ إلى جوهر المشكلة، بأن تجعل المعركة داخل الذات، وليست خارجها، ما نراه من سلوك هو فى الحقيقة نتيجة المعركة، وليس عنوانها.
الرواية، التى وصلت إلى القائمة الطويلة لجائزة البوكر 2022، يستلهم مؤلفها وقائع رحلة حقيقية قام بها أحمد حسنين باشا، رئيس الديوان الملكى فيما بعد، وصديقته البريطانية «روسيتا فوربز» لاكتشاف واحة الكفرة.
الواقعة معروفة، وصدر عنها كتاب بالعربية من تأليف أحمد حسنين، وكتاب بالإنجليزية لزميلته البريطانية متضمنا يوميات الرحلة، وروايتنا تسرد تفاصيل الرحلة، واكتشاف الكفرة، ويستعين فيها كاتبها بأجزاء قليلة من يوميات «روسيتا فوربز»، كما أن تفصيلات الأماكن، ومخاطر القافلة، وطبيعة الصحراء، حاضرة ومكتوبة ببراعة، ولكن رحلة «همس العقرب» الأهم داخل بطلى المغامرة: أحمد حسنين (الذى أطلق عليه المؤلف اسم حسين)، وروسيتا فوربز (الذى تحول اسمها إلى روز هوبز).
يؤكد فكرة الرحلة الداخلية، بالأساس، أن المؤلف لن يكتفى بتفاصيل المغامرة الصحراوية، التى كشفت طبيعة البطلين، ولكنه سيختبر تلك الطبيعة فى احتفالٍ ملكى بالإسكندرية يقام فى العام 1938، هناك يلتقى حسين مع روز بعد 18 عاما، وقد تغيرت أشياء كثيرة، وظهرت اختبارات أخرى، فماذا فعلت الأيام؟ وهل يمكن أن تتغير الطبائع والنفوس؟
بناء النص ينتقل، زمانا ومكانا، بين الحفل الصاخب والفاخر فى حضور الملك الشاب فاروق وأمه الملكة نازلى، وبين المغامرة الصحراوية وصولا إلى الكفرة، وإقامة فيها، من عالمٍ انتهى لتوه من الحرب العالمية الأولى، إلى عالم على مشارف حرب عالمية جديدة.
حسين وروز فى قلب الحكاية، ماضيا وحاضرا، هى الآن تجاوزت أمجاد اكتشاف الكفرة، وحققت اكتشافات أكبر فى جزر المحيط الهادى، وهو الآن معلم الملك الشاب، وموضع إعجاب الملكة الأم نازلى، والرجل الطموح، وصاحب النفوذ الذى ينتظره منصب رئيس الديوان الملكى.
الحفلة والرحلة مرآتان نرى فيهما صورتين بالعمق لحسين وروز، إلى حد يمكن أن نقرأ فيه النص بأكمله باعتباره دراسة نفسية واجتماعية لهما، دون أن تفقد الحكاية تشويقها، ولا مغامرة البحث والاكتشاف والمفاجأة، كل ذلك موجود بوفرة، وبإتقان، ولكن المعركة الكبرى هناك فى داخل كل شخصية، مثلما هى معركة مع الظروف، والعواصف، وقلة الزاد والماء، وغموض الصحراء.
«حسين» فى الرواية شخصية معلقة بين عالمين: ابن الشيخ الأزهرى الفقير، درس فى أكسفورد، والوطنى المناضل ضد الإنجليز، حارب فى صفهم فى الحرب العالمية الأولى، وحصل على وسام من مليكهم، يبدو قبوله عرض روز برحلة لاكتشاف واحة مجهولة، كفرصة لاكتشاف ذاته، وكمحاولة لحسم صراعاته، والوصول إلى بعض اليقين.
أما «روز»، الممرضة السابقة، التى فقدت زوجها فى الحرب العاليمة الأولى، فهى أيضا هاربة من جنون العالم المتحضر، من هذا القتل المجانى فى المعارك، ومن معاناة الفقد، وتحلم أيضا بمجد أدبى يعيد اليها الثقة فى الذات، وفى العالم.
الصحراء كمرآة تنعكس عليها نفوس الشخصيات تيمة استلهمتها أعمالٌ أدبية كثيرة؛ مثل «المريض الإنجليزى» و«السماء الواقية»، ولكن «همس العقرب» لا تفعل ذلك فحسب من خلال تفاصيل الرحلة، وإنما عن طريق حياة حسين وروز فى واحة الكفرة بعد استضافتهما، هنا يلتقى عالم القرن العشرين مع عالم بسيط وتقليدى تمثله نماذج الواحة، وتحديدا شخصيات مثل سيدى فوزى وابنته جميلة وخطيبها الشاب ياسين، وقريبتها الفتاة سندس.
تُختبر تناقضات أخرى إضافية، عندما تحب سندس حسين، وعندما تكتشف روز عواطفها وجسدها مع ياسين، وكانت روز قد عرفت حسين جسدا وعاطفة من قبل.
يتضح لنا كلما توغلنا فى التجربة، ماضيا وحاضرا، أن غموض وأسرار الصحراء لا تقارن بغموض وأسرار الطبيعة البشرية المعقدة، بل إنه بينما ينحل لغز الوصول إلى الكفرة، فإن اللغز الحقيقى يكمن فى الكفرة نفسها، وبينما يفترض أن يعبر الضيوف القادمون بسلام، فإنهم سيعقدون حياة أهل الواحة، إلى درجة حلول اللعنة.
يستخدم محمد توفيق بذكاء لعبة البساطة التعقيد التى تنعكس على البناء نفسه، مثل انعكاسها على تحليل تناقضات روز وحسين، ستترك رحلة الصحراء أثرا لا يزول عليهما، مثلما تركت أثرا على ذراع روز، وعلى قدم حسين، ستبدو روز حبا حقيقيا فى حياة حسين، ولكنه الآن يستعد لحياة جديدة، بعيدة عن حكم والده، وعن تراتيل الصوفية، سيتقبل تناقضاته ببساطة، فيما تسلم روز بأن الماضى يحفر عميقا فى الإنسان، وأنه لا يموت، ولكن الساعة لن تعود أبدا إلى الوراء.
ستظل الشخصيات تبحث عن يقينها الخاص، وعن حريتها، وعن لحظة اكتشاف للذات، حتى لو سافرت للصحراء، أو لجزر المحيط، ولكن الرواية تتفهم معنى الطبيعة الإنسانية، وتستمع إليها، ترى شخصياتها كما هم، وتنقل أسئلتهم إلينا، سواء على مستوى تأمل تناقضات البطلين، أو على مستوى صراعات الأفراد والدول، لامتلاك السلطة والثروة.
ماذا تفعل العقارب سوى أن تكون وفية لطبيعتها؟ الإنسان أيضا هو ابن تناقضاته، لا يعنى ذلك أنه غير مسئول عن اختياراته، ولكن معنى الرحلة كلها هى أن معركتنا الحقيقية مع الذات، وأن الصحراء والواحة داخل النفوس والقلوب والعقول، وليست خارجها فقط.