السجن والسياسة: رواية التاريخ - أحمد عبدربه - بوابة الشروق
الجمعة 3 مايو 2024 1:37 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

السجن والسياسة: رواية التاريخ

نشر فى : الأحد 3 أغسطس 2014 - 7:40 ص | آخر تحديث : الأحد 3 أغسطس 2014 - 7:40 ص

لا أعتقد أن هناك سياسيا راشدا أو متصديا للشأن العام فى الدول الديكتاتورية، أو لنقل تهذبا الأقل ديموقراطية، لا يخطر بباله أنه قد يقضى بعض العمر خلف القضبان، لا لجريمة اقترفها، ولكن لرأى سياسى قاله بصراحة أو ثمنا لانتماء سياسى هنا أو هناك. لا يقتصر الموضوع على دولة بعينها ولكنها ظاهرة عالمية تعرض لها ساسة كثيرون فى العالم، بعضهم يتبوأ مناصب قيادية الآن!

مصر ليست شاذة عن القاعدة بكل تأكيد، فعبر سنوات تاريخها الحديث على الأقل تعرض كثيرون للسجن بسبب مواقفهم وانتماءاتهم السياسية، بل إن هناك ثلاثة رؤساء مصريون ذاقوا طعم السجن، منهم الرئيس الراحل أنور السادات والرئيسين الأسبقين حسنى مبارك ومحمد مرسى، مع الفارق أن الأول ذاق السجن قبل أن يصل إلى سدة الحكم، بينما ذاق الآخران السجن بعد أن تهاوت أنظمتهم السياسية فى السنوات الثلاث الأخيرة.

عرف نظام عبدالناصر بأنه الأكثر قسوة تجاه السياسيين المعارضين، وبشكل أقل كان الحال لأنظمة السادات ومبارك ومرسى، ولم يختلف الحال حاليا (على الأقل حتى الآن)! لست هنا فى موضع ذكر الأسماء والأعداد والظروف، فالإحصاءات والروايات الرسمية تختلف جذريا عن نظيراتها الحقوقية، ولا أريد قطعا تحميل هذه المساحة المحدودة ما لا تحتمله من الناحيتين القانونية أو السياسية.

•••

لفت نظرى لهذا الموضوع الشائك قراءة عدة مطبوعات أخيرا عن حياة السياسيين فى السجون، أحدها كتاب بعنوان المثقفون المسجونون Imprisoned Intellectuals حرره John James صدر فى عام ٢٠٠٣ يحكى عن تغير حياة وفسلفة ورؤية ثلاث وعشرين سجينا سياسيا وناشطا وأكاديميا أمريكيا للحياة بعد تجربة السجن أشهرهم مارتن لوثر كنج، وتقرير تحليلى آخر لشبكة البى بى سى بعنوان كيف تبدو الحياة فى السجن للسياسيين

?What is it Like for Politicians in Prison صدر فى مارس ٢٠١٣ ويحكى قصاصات من حياة السياسيين البريطانيين فى السجون، فضلا عن بعض القصص الأخرى لسجناء سياسين فى أوروبا الشرقية وجنوب أفريقيا، هذه الكتابات كاشفة عن معضلات كثيرة فى العلاقة بين النظام والسجناء السياسين أثرت على مستقبل هذه الأنظمة عبر تغير رؤية هؤلاء السياسيين للحياة كلها، أطرح هنا بعضها على النحو التالى:

• فى حين أن السجن للمجرمين هو تهذيب وإصلاح، فإنه للسياسيين إعادة ميلاد، فالغاية من تطبيق العدالة على المجرمين تنتفى مع السجناء السياسيين، لأن الأخيرين يدركوا فور سجنهم أنهم ليسوا فى إطار تطبيق العدالة، ولكنهم فى سياق لعبة سياسية خطرة بينهم وبين النظام، وأن لحظة سجنهم ما هى إلا محطة من محطات متعددة للكر والفر عليهم دفع ثمنها عاجلا لغاية أسمى أجلا!

• فى هذه التجارب، كان السجن بمثابة مدرسة لتغيير رؤية السياسيين للحياة وجعلهم أكثر نضجا وإلهاما فى مناحيها من زاويتين، الأولى، أن الوقت يكون متاحا لهم بشكل أكبر للقراءة والاطلاع على علوم مختلفة من الفلسفة للتاريخ للدين لعلم النفس.. إلخ وهو عادة وقت لم يكن ملكا لهم قبل تجربة السجن، والثانية أن السجن يكون فرصة لهم للاحتكاك بغيرهم من السجناء السياسيين المنتمين لتيارات مختلفة يسارية أو يمينية مخالفين لتياراتهم أو حتى عبر احتكاكهم بالسجناء الجنائيين!

• فى التجارب المذكورة جميعا وبدون استثناء واحد، حصل السياسيون على شرعية جديدة بين جماهيرهم وأتباعهم والمؤمنين بأفكارهم، فمن كان أتباعه قبل السجن عشرة أصبحوا عشرين، ومن كانوا عشرين أصبحوا أربعين وهكذا، لدرجة أن هذه الشرعية الجديدة قد تكون غير مستحقة أو لنقل مبالغ فيها، لكن مجرد وجودهم داخل السجون كانت فرصة لخلق أساطير حول حياتهم ورؤيتهم وهو أمر لا يلتفت النظام إليه كثيرا لكن يدركه بالتدريج لاحقا.

• بعد السجن يكون الاحتمالين الأقل حدوثا للسجين السياسى هو مهادنة النظام أو الانسحاب كليا من المشهد بعد ألم التجربة، لكن يبقى الاحتمال الأكبر فى الحالات المذكورة، هو الاستمرار والاصرار على المنحيين السياسى والعقدى، بل ووصل الأمر بالبعض إلى التطرف فى معاداة النظام عن ذى قبل!

• كان الاحتمال الأقرب للسجناء السياسيين فى معظم هذه التجارب هو عدم العمل مجددا أو بقوة من داخل المؤسسات والأطر الرسمية والميل للعمل السرى أو غير الرسمى، مع إدراك السجناء السياسيين بعد التجربة المؤلمة لأهمية تكتيك التحالفات المرنة غير المعلنة حتى حققوا أهدافهم أو ماتوا دونها!

• فى حالة السجناء السياسين من الشباب، فإن الاحتمال شبه المؤكد هو التطرف ومعاداة النظام وعدم قبول اللعب داخل ترهاته والاصرار على إسقاطه بغض النظر عن نجاحهم فى ذلك من عدمه، فإن تدخل السجن وأنت فى العشرين أو على مشارف الثلاثين يعنى فى الأغلب أنك ستتحول إلى متطرف فى الأربعين وربما إلى حكيم أو زعيم فى الستين، إن أدركك العمر قطعا!

• فى حالة السجناء السياسيين الشباب أيضا، فإن قصص السجن وهالتها تصنع أساطير حولك تحولك أنت نفسك إلى أسطورة حية يتداولها جيلك، تتحول سريعا إلى وجدان عام يشكل وعيا جديدا يقاوم النظام ولا يقبل الحلول الوسط، فينتهى الأمر باغتراب أو تطرف جيلى يصعب علاجه مهما حاول الإصلاحيون لاحقا! وفى هذه النقطة تحديدا، كانت سجون جنوب أفريقيا ودول أوروبا الشرقية مثالا حيا على أساطير تم صنعها حول السجناء السياسين الشباب، تحولت إلى وعى جيلى انفجر فى وجه هذه الأنظمة جميعا!

•••

بالعودة إلى مصر، وبعيدا عن الأرقام المتضاربة هنا وهناك، فالحقيقة المؤكدة أنه بعد الثلاثين من يونيو هناك سجناء سياسيين معظمهم من الشباب يقفون خلف القضبان، ويدفعون أثمان سياسية بعضها متوقع والأخر لا يمكن استيعابه اذ أن منهم كثيرون وقفوا وساندوا نظام ما بعد الثلاثين من يونيو وياللغرابة! يكتب معظمهم من خلال وسطاء قصص السجن وعذابه وألامه، وفى عصر التواصل الاجتماعى السريع، تنتشر هذه القصص سريعا، وبغض النظر عن مدى صحتها أو دقتها، إلا أنها تتحول سريعا إلى أساطير بين الشباب، تخلق تباعدا واغترابا، بل وتطرفا ليس فقط تجاه النظام ورموزه الأمنيين والسياسيين، بل وحتى ضد أجهزة الدولة نفسها، والتاريخ يقول إنه ما لم يتخذ النظام السياسى قرارا حكيما وذكيا بإنهاء هذه الأوضاع الاسثنائية فإننا أمام احتمالين لا ثالث لهما، فإما أن تنفجر هذه الأساطير الشابة فى وجه النظام والدولة والأجيال الأكبر أجلا أو عاجلا، أو تنتهى بحالة اغتراب وانسحاب عام بين الشباب والدولة (لا النظام فقط)، وفى كلا الاحتمالين خطورة كبرى على كل شعارات وأهداف ومساعى النظام البراقة من الاستقرار عبورا بالإنتاج والمصالحة الوطنية وصولا إلى الأمن القومى.

•••

كاتب هذه السطور كان يستطيع إنهاء المقال عند الفقرة السابقة واضعا نقطة وقف، ولكن لإدراكه لحساسية القضية وما قد تسببه من سوء فهم بحسن نية أو اصطياد فى الماء العكر بسوء نية مبيتة، فإنه واختصارا لجدل عقيم متوقع، يقولها بوضوح، لا يهدف هذا المقال لأن يفلت المجرمون أو الإرهابيون من العقاب، ولكنه يدعو للتفرقة بين من يثبت من خلال منظومة العدالة الحقة غير المسيسة بأنه بالفعل ارتكب أفعالا ضد القانون تحريضا أو تنفيذا وعليه أن يلقى جزاءه إذا، وبين من يقضى سنوات عمره خلف القضبان ثمنا لانتماء تنظيمى أو فكرى هنا أو هناك دون أن يرتكب جريمة، بين من يروع الناس ويرهبهم ويقتلهم، وبين من خرج متظاهرا أو معبرا عن رأيه هنا أو هناك بسلمية ولكنه يقضى أيامه فى السجن لأن قانونا مخالفا للدستور طبق عليه أو حتى لأنه مجرد مشتبه به قد تم الزج به فى السجن عشوائيا تحت دعوى فرض الهيبة والنظام. قال التاريخ روايته عن قصص السجناء والنشطاء السياسيين قبل وبعد القضبان، فما قولكم؟

أحمد عبدربه مدير برنامج التعاون الدبلوماسي الأمريكي الياباني، وأستاذ مساعد العلاقات الدولية بجامعة دنفر.