شعب الوشاة - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الأحد 28 أبريل 2024 7:27 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

شعب الوشاة

نشر فى : السبت 4 يناير 2014 - 8:00 ص | آخر تحديث : السبت 4 يناير 2014 - 8:00 ص

طلب مدير المدرسة من الفتى أن يشى بأسماء زملائه الذين ارتكبوا فعلا مسيئا يستحق المعاقبة، لكن الفتى رفض وتمسك بالرفض حتى أُحِيلَ إلى لجنة تأديبية، انعقدت أولى جلساتها فى مدرج واسع ملأه طلاب المدرسة صاحبة التقاليد الصارمة الرفيعة، التى لا تضم بين جوانبها سوى أبناء الأثرياء وأصحاب النفوذ والجاه.

ظل الفتى على صمته أمام الجمع الكبير حتى اتهمه مدير المدرسة أمام اللجنة والطلاب بأنه محتال وكاذب، فما كان من مرافقه الأكبر عمرا ــ القائد العسكرى الذى فقد بصره فى إحدى الحروب ــ إلا أن رفع صوته عاليا فى القاعة مشيرا إلى الفتى: «لكنه ليس بواشٍ، وهذه ليست سوى مهزلة». استشعر المدير حرجا من الكلمات الساخرة فأعطى الفتى فرصة أخيرة كى يُدلى بأسماء زملائه المتورطين، لكن القائد الأعمى المتقاعد رفع صوته مرة أخرى رافضا الفرصة، معلنا أن الفتى ليس بحاجة إليها، ثم لم يلبث أن اندفع متسائلا فى تهكم عن شعار المدرسة التى يدفع مسئولوها الطلاب إلى الإيقاع بزملائهم، وانطلق فى خطاب شديد الروعة والمتانة ليشكك فى مصداقية وأخلاقية النظام التعليمى الفاسد الذى تقره المدرسة، والذى يُثِيبُ الواشين والخائنين مدعيا أنه يخلق منهم رجالا، بينما هو يحولهم فى حقيقة الأمر إلى مسوخ شائهة: «روح هذا الفتى مازالت سليمة وهى غير قابلة للتفاوض والمساومة. كنت قادرا على الرؤية ذات يوم، وقد رأيت فتيانا كهولاء وأصغر منهم عمرا أيضا، بسيقان ممزقة وأذرع متهتكة، لكن لا شىء يضاهى مرأى روح مبتورة، فما من بديل يمكنه تعويضها كما تفعل الأطراف الصناعية».

•••

المشهد هو أحد مشاهد فيلم «عطر امرأة» للمخرج مارتن برست، وقد أُنتِجَ فى أوائل التسعينيات ورُشِّحَ حينها لعدد من جوائز الأوسكار، وأدى فيه آل باتشينو دور القائد العسكرى المتقاعد لينال جائزة أفضل ممثل، وربما يذكر كثيرون ممن شاهدوه رقصة التانجو الشهيرة التى صارت من علامات السينما الباقية، أما الخطاب الذى يلقيه فى المشاهد الأخيرة من الفيلم فهو بمثابة رسالة مباشرة ومؤثرة.

•••

تذكرت الفيلم حين قرأت فى الأيام الماضية خبرين متتاليين أولهما حول إرسال نائب رئيس إحدى الجامعات أوامرا «سرية» إلى عُمَدَاء الكليات، يطالبهم فيها بجمع صور الطلاب المشاركين فى المظاهرات، ومعها بيانات أعضاء هيئة التدريس الداعين أو المحرضين على الاحتجاجات، أما ثانيهما فخبر يحمل دعوة من جهاز الأمن الوطنى للمواطنين المصريين كى يبلغوا عن أى شخص ينتمى ــ فقط ينتمى ــ إلى جماعة الإخوان المسلمين عبر أرقام هواتف خُصِّصَت لهذا الأمر.

رحت أحصى سريعا وبقدر ما أسعفتنى الذاكرة زملاء الدراسة والعمل وأصدقاء الجامعة والجيران وبعض الأقرباء ممن انتموا يوما إلى جماعة الإخوان وممن لا يزالون على انتمائهم، فوجدت أمامى عددا لا بأس به من البلاغات التى يجب علىّ ــ إن أردت أن أكون مواطنة صالحة فى عرف الدولة ــ أن أسارع بتقديمها لجهاز الأمن الوطنىّ.

•••

فكرت أن الوشاية التى تطلبها الدولة من مواطنيها لهى أقسى وأعظم دناءة مِن تلك التى حاول مدير المدرسة إجبار الفتى الفقير عليها، فالمدير الذى أدانه الفيلم إدانة أخلاقية صريحة، أراد من الطالب أن يعترف على زملاء له اقترفوا خطأ حقيقيا، وشاهدهم المدير نفسه متلبسين، بينما الدولة تريد فى تلك المرحلة من المواطنين أن يشوا ببعضهم البعض بناء على اختلافاتهم الفكرية والعقائدية والسياسية ليس إلا، هكذا دون أن ياتى الشخص المُبلغ عنه بجريمة أو خطأ. أمر يمكننا أن نطلق عليه «التنكيل على الهوية»؛ يُلقى مواطن بآخر ــ يخالف انتماءه ــ بين تروس آلة القمع راضيا مطمئنا دون أن يشعر بندم ودون أن يتساءل عما هو بصدد ارتكابه، إذ شرعت له الدولة ما يقوم به. كنا نتعلم قديما فى البيوت والمدارس أن الوشاية فعل شديد السوء، لكن الدولة أخذت على عاتقها فى الفترة الحالية مهمة تربية جيل مِن الوشاة.

•••

ثمة أمر مشترك بين فيلم مارتن برست وفيلم الدولة الفاشية الذى نُعيد عرضه من جديد، فمشكلة الفتى أنه على عكس زملائه لم يولد لأب ثرى مما جعله فى حاجة ماسة إلى خطاب التوصية الذى عرضه عليه مدير المدرسة لدخول الجامعة، لكن عرض المدير السخى هو عرض مرهون بقبول الفتى الوشاية بزملائه، ونحن بالمثل هنا، ندرك أن عرض الحماية والرعاية الذى تقدمه الدولة الآن، مرهون بقبول المواطنين لتدابيرها وإجراءاتها المشينة، بل والمشاركة فى تنفيذها أيضا.

ينتهى الفيلم بأن يوصى المدير باستبعاد الفتى من المدرسة، لكن اللجنة التأديبية تقرر إعفاءه من العقاب والمساءلة احتراما لشجاعته وشرفه وأخلاقه فتضج القاعة بالتصفيق. خاتمة الفيلم سعيدة لكن القاعة التى تضمنا الآن لا تنتصر لمفاهيم من قبل الشرف والأخلاق، ولا يبدو أنها تصفق إلا لدعاوى الانتقام وتغييب الضمير.

•••

أظن أن شعبا من الوشاة لا يمكنه أبدا أن يشرع فى البناء، فالوقت الذى يستغرقه فى البحث والتنقيب والإيقاع ببعضه البعض لن يسمح له بإنجاز شىء آخر. شعبٌ من الوشاة لا يصنع مستقبلا آمنا بل يشيد قلاعا من التوجس والريبة، فيما تُجَرَّفُ روحه وتُسحَقُ منظومته الأخلاقية ليُعَادُ تشكيلها من جديد طبقا لاحتياجات حاكميه.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات