«الفيلق المصري».. تراجيديا القهر والتمرد! - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
السبت 11 مايو 2024 11:03 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«الفيلق المصري».. تراجيديا القهر والتمرد!

نشر فى : السبت 2 ديسمبر 2023 - 10:05 م | آخر تحديث : السبت 2 ديسمبر 2023 - 10:05 م
ثلاث أغنيات ما زالت باقية من سنوات الحرب العالمية الأولى، تتجاوز قيمتها الفنية إلى دلالات سياسية واجتماعية مهمة. الأغنية الأولى هى «سالمة يا سلامة»، والثانية هى «يا عزيز عينى»، والثالثة هى «باردون يا ونجت»، و«ونجتْ» هذا هو المعتمد البريطانى فى مصر.
المصرى الفنان سجل فى هذه الأغنيات بؤس الأحوال والظروف، وتراجيديا القهر والغربة، وإجبار الاحتلال الإنجليزى للمصريين على المشاركة فى الحرب، سواء من خلال فيلق العمال، أو فيلق الجمال، أو من خلال مصادرة الدواب والمحاصيل الزراعية، لتسوء أحوال البلاد والعباد، وترتفع الأسعار، ويرى المصراوية «الحرب والضرب والديناميت» بأعينهم، سواء فى الشام والعراق، أو فى فرنسا وألمانيا.
وهذا كتاب مهم للغاية للدكتور محمد أبو الغار، صدر عن دار الشروق بعنوان «الفيلق المصرى.. جريمة اختطاف نصف مليون مصرى»، يكشف الكثير عن تلك المأساة الخطيرة، التى لم تتضح بعض معالمها إلا فى ذكرى مئوية ثورة 1919، بعد أن اكتنفها الضباب والتعتيم طويلا.
حتى فى وقتها، لم يُنشر شىء فى الصحف عن الكارثة، بسبب الرقابة العسكرية وقت الحرب، ولم يكتب الفلاحون شيئا عن معاناتهم، لأنهم لا يجيدون القراءة ولا الكتابة، كما أن أحداث ثورة 1919 الهائلة، غطت على ما سبقها، فلم تحظ الحكاية إلا بإشارات عابرة، نجدها فى مذكرات سعد زغلول، أو ذكريات سلامة موسى، أو تاريخ الرافعى، أو فى ذكريات وخطابات كتبها ضابط إنجليزى تعامل مع رجال الفيلق، مثل الملازم فينابلز، وهو أحد المصادر الأساسية فى الكتاب.
يمكن أن نلخص المأساة فى نقاط جوهرية أولها أن المصريين لم يحاربوا بالسلاح بجانب الإنجليز، ولكن مهمة «الفيلق» كانت تتعلق بمد خطوط السكك الحديدية، وأنابيب المياه، وتفريغ السفن، وقد اعتبر الجنرال اللنبى أنها كانت مهام جوهرية للغاية، لولاها ما انتصرت بريطانيا، وقد أنجزها رجال الفيلق بكل اقتدار، رغم أجواء البرد والثلج فى فلسطين وأوروبا، ورغم قصف المدافع من الأتراك والألمان.
الأمر الثانى هو ضخامة أعداد هذا الفيلق، والرقم الأقرب للترجيح هو أكثر من نصف مليون شخص، معظمهم من الصعايدة، فى وقت كان سكان مصر كلها لا يتجاوز 12 مليونا فقط.
الأمر الثالث هو أن 75% من الملتحقين بالفيلق تم إجبارهم، بل واختطافهم من حقولهم، بتواطؤ كامل بين سلطة الاحتلال البريطانى، وسلطة الإدارة المصرية، وبموافقة السلطان حسين كامل، ورئيس الوزراء حسين رشدى، بل وبتمويل من الحكومة المصرية، من خلال قرض لبريطانيا، تنازلنا عن تحصيله بعد الحرب!!
كان العمل أقرب إلى السخرة، رغم أنها ألغيت رسميا فى العام 1892، وعرفت تلك المأساة بمحنة «السلطة»، والتعبير كما ذكرنا مزدوج: سلطة المحتل، وسلطة الحكومة المصرية.
أجبر الفلاحون المخطوفون على الختم على عقد عمل جائر، مقابل قروش قليلة، ودون تحديد أى تعويضات عن الإصابة أو الموت، ودون رعاية صحية كافية، بل ويرصد الكتاب اعتراف لجنة تحقيق بريطانية فى 2021، بأن الضحايا المصريين (وأعدادهم تتراوح بين 18 ألفا و50 ألفا)، دفنوا بشكل غير لائق، وفى مقابر جماعية، وبدون تسجيل لأسمائهم.
الأمر الرابع هو ما تسبب فيه هذا الاختطاف من تأثير على الأرض الزراعية، التى انتزع منها فلاحوها، وتأثير مصادرة المحاصيل والدواب عموما على غذاء المصريين، حيث وصلت المجاعة إلى بعض المناطق، كما أن غياب رجال الفيلق عن أسرهم أحدث كوارث أخلاقية،
وكما لاحظ صلاح عيسى فى كتابه البديع «رجال ريا وسكينة»، فإن حسب الله وعبدالعال مثلا خدما فى هذا الفيلق، ولما عادا قبلا ببساطة أن تعمل ريا وسكينة فى فتح بيوت الدعارة، وربما يكون هذا الانهيار الأخلاقى من آثار تجربة الخدمة عند السلطة، واعتياد مشاهدة ونقل قتلى الحرب، مما جعلهم يقتلون ويدفنون الضحايا بقلب بارد.
الأمر الخامس هو أن رجال الفيلق أثاروا الإعجاب لقوة تحملهم، بالذات فى فرنسا، رغم المعاملة العنصرية، التى كانت تصل أحيانا للضرب بالكرابيج، بل ووجدوا وقتا للغناء، ولتقديم فقرات تمثيلية مسلية، و«مطرح ما بيروح المصرى برضو طول عمره ذو تفنن».
ولكن يسجل الكتاب بالمقابل معارك عنيفة رفضا للتجنيد فى الفيلق، واعتداءات على رجال الإدارة المحلية كالمآمير والعمد، ثم تحول هذا الاضطراب الذى تفاقم فى العام 1918، إلى مشاركة أساسية للفلاحين فى ثورة 1919، تميزت ملامحها بقطع خطوط المواصلات والاتصالات، فى محاولة للاحتفاظ بالمحاصيل، بعيدا عن مصادرة السلطة.
يمكن اعتبار إجبار الفلاحين على العمل فى الفيلق من أسباب ثورة 19، ومن أسباب مشاركة الفلاحين فيها على وجه الخصوص، فكأن تراجيديا القهر، أثمرت سيمفونية الثورة، كما بقيت فى الذاكرة الشفوية أغنيات وحكايات متوارثة من أيام السلطة، ومن سنوات التغريبة القهرية البائسة.
لكن الاهتمام بالثورة نفسها حجب أيام القهر التى سبقتها، وحجب الحديث عن الفيلق وفلاحيه، الذين حصل بعضهم على أوسمة أثناء الحرب، والذين أقامت بريطانيا نصبا تذكاريا لتخليد ضحاياه، وقد عثر د. أبو الغار على هذا النصب فى حديقة معهد العيون التذكارى بالجيزة، كما قدم فى الكتاب قوائم لبعض أسماء هؤلاء الضحايا، مترجمة عن الوثائق البريطانية.
صدرت رواية عن رجال هذه المأساة بعنون «الفيلق» لأمين عز الدين، ولكن ما زال هناك الكثير مما يستحق البحث والدراسة، بالذات من الجانب المصرى، والمؤسف أنه لم يسمح للدكتور أبو الغار بالاطلاع على الوثائق المصرية حول الموضوع، بينما يسر الإنجليز عمله، فأهدانا هذا الكتاب الخطير.
ربما تكررت بعض المعلومات فى أكثر من فصل، وربما وضعت بعض المعلومات فى غير مكانها، ولكننا أمام استعادة عظيمة لذاكرة منسية، يتصدرها غلاف لفلاحين بأسمال بالية، ربطوهم بالحبال والسلاسل، وأطلقوا عليهم اسم «المتطوعين».
تركوا أرضهم وهم يغنون «يا عزيز عينى»، وعادوا إليها وهم يغنون «سالمة يا سلامة».
محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات