حول سلطة النص وسلطة المؤلف - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
الجمعة 10 مايو 2024 10:32 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

حول سلطة النص وسلطة المؤلف

نشر فى : السبت 1 يوليه 2023 - 8:30 م | آخر تحديث : السبت 1 يوليه 2023 - 8:30 م
كنا فى ندوة عامة نناقش رواية متميزة، وانطلق بنا ثراء النص إلى آفاق يحتملها، ورموز يمكن قراءتها، سواء عبر الشخصيات، أو من خلال الأحداث، وكان رأى صاحب الرواية أنه لم يقصد ما وصلنا من قراءات وتفسيرات، ولكنه لا يريد المصادرة على «سلطة النص».
أعجبنى تعبير المؤلف، ونظرته الصحيحة للأمور، فالكاتب أو المؤلف هو صاحب النص، ولكن النص له سلطة أيضا، خاصة لو كان العمل ثريا، ومتعدد الدلالات، ولا تناقض بين سلطة المؤلف وإرادته وما يقصده، وبين تأويلات محتملة يشى بها النص، ويلتقطها القارئ أو الناقد.
هذا الموقف الذى شرحه صاحب الرواية يناقض مواقف متطرفة تميل إلى تفضيل سلطة الكاتب، ورفض ما عداها، بل إن بعض المؤلفين ينزعجون من سلطة نصوصهم، ويعلنون رفضهم لأى قراءات أو تأويلات أخرى، ولا ينقص هؤلاء سوى أن يرفقوا برواياتهم تفسيرا معتمدا، أقرب إلى المذكرة التوضيحية الوحيدة، لنصوص القوانين والمراسيم.
فى المقابل، هناك من يلغى وجود المؤلف، ويفترض سيطرة النص الكاملة. المؤلف مات، والعمل صار ملكا للقارئين، والرواية يعاد تأليفها وتأويلها مع كل قراءة، ومع كل تفاعل بين النص وقارئه.
لا يوجد فى يقينى موت من أى نوع فى الأعمال الفنية والأدبية، لا للمؤلف، ولا للنص، ولا القارئ، ولكنها زوايا مختلفة الرؤية، وحقوق طبيعية متكاملة، تمنح للنصوص وللمؤلفين وللقراء نشوة جماعية، وحياة لا تموت.
البداية من المؤلف، هو صاحب النص ووالده، والنص (الابن) جزء من أبيه، ولكنه أيضا كائن حى مستقل، له سطوته وإرادته، وبصمة الأب لا تلغى إرادة الابن، بل لعل الأب يكون أكثر سعادة باستقلال الابن عنه، رغم انتمائه إليه.
من حق المؤلف أن يتحدث عن كواليس النص، والأفكار التى طاردته أثناء الكتابة، والأسئلة والهواجس التى أثقلت تجربته، وعليه، فى الوقت نفسه، أن يستوعب ما فعله النص فى القراء، وكيف يرونه ويفسرونه؟ وأن ينفتح كذلك على قراءات النقد، ومناهجه المختلفة.
من علامات النصوص الثرية، أن تثير هذه الآراء والتأويلات المختلفة، نصوص شكسبير مثلا تتميز بذلك، وما كتب، وسيكتب عنها، لا ينتهى، وكل كاتب يدلل من المسرحيات على الرؤية والمنهج، رغم أن شكسبير، لو بعث، سيندهش حتما، وسيقول إنه لم يقصد ما ذهب إليه كثير من النقاد. الرجل مثلا لن يستوعب تعبير «عقدة أوديب» فى وصف علاقة هاملت بأمه، لأنه مصطلح فرويدى حديث، جاء بعد وفاة شكسبير بسنوات طويلة.
ما يستحق التوقف عنده هو تعبير «قصدية المؤلف»: هذا التعبير مراوغ ويجب مراجعته، لأن ما يقوله المؤلف ينصرف إلى «القصد الواعى» من الكتابة، دون ملاحظة أن هناك جوانب «لا شعورية» أساسية فى عملية الكتابة، وفى آليات الإبداع الفنى والأدبى عموما.
القصد الواعى إذن لا يلغى الجانب اللاشعورى، وليس مطلوبا من الكاتب أن يحلل اللاشعور، ولا أن يستبطنه ويكتشفه، ولكنه يلمس أثره بالقطع على كتابته، فيقول لك مثلا إنه مندهش مما كتب، وإنه لا يعرف من أين خرجت هذه الشخصية، أو جملة الحوار تلك، ولا يعرف مصدر هذا المخزون، الذى خرج وتدفق فى لحظة الكتابة.
تعامل القارئ والناقد مع النصوص فيه أيضا جانب لا شعورى، فنحن فى كل الأحوال نستجيب للنصوص، وفى كثيرٍ من الحالات، بما يلامس تجارب وأفكارا داخلية، تجد نفسها فى شخصيات العمل الفنى والأدبى، وفى أفكاره وموضوعاته وأحداثه.
من الناحية الجمالية أيضا، فإن حرفة الكاتب، وإخلاصه لموضوعه وفنياته، والسير وراء شخصياته، رغم أنه صانعها، كل ذلك يفتح آفاقا واسعا أمام الكتابة، وكثيرا ما يؤدى إلى تغييرات شاملة، تأخذ الفكرة الأصلية المقصودة إلى عوالم مدهشة، ولذلك يُنصح دوما بكثير من العفوية والحرية، رغم وجود خطوط عامة، وملفات مبدئية للشخصيات.
ولعل أفضل ما سمعته حول هذه النقطة ما قاله لى الروائى الكبير الراحل محمد ناجى بأنه يكتب روايته كما يفعل النساج على النول: يعرف فقط نقطة البداية، ونقطة النهاية، ولكن ما بينهما يكون نسجا حرّا على نول الكتابة.
فى هذه المسافات السحرية بين الفكرة المجردة، وسطوة اللاشعور العارم أثناء الكتابة، وبين التخطيط المبدئى اللازم لضبط المسار، وبين التدفق الحر والمفاجئ، تولد معانى وأفكار وإسقاطات لا مرئية تثير دهشة المؤلف نفسه.
وكأنها لحظة خلق صغيرة، تملأ الأفكار الضبابية، وتكسوها لحما وعظما، وتمنحها حياة وحركة، مثل طفل مولود نزل صارخا، بعد أن كان حيوانا بدائيا ضائعا فى سائل هلامى.
ومثلما يحتاج الجنين إلى نضج ووقت وظروف مواتية، فإن النص يتطلب ذلك أيضا، وكلما كانت الفكرة واضحة، احتاجت إلى أضعاف الوقت لإنزالها من التجريدى إلى الحى.
أتذكر هنا ما قاله لى الروائى الكبير فتحى غانم عن رواية جديدة كان يحاول كتابتها فى تلك الفترة (1990) ، قال:
«أحاول الآن كتابة رواية يدور محورها عن السلطة عموما، وعن سلطة الجمال بوجه خاص، فقد وجدت تشابها عجيبا بين الآليات التى تستخدمها المرأة الجميلة فى الاستبداد بالرجل، وبين الآليات التى يستخدمها الحاكم المتسلط فى الاستبداد بشعبه، وبعد محاولات فى كتابة الفكرة، أحسست أن المعالجة مباشرة أكثر من اللازم، وأنا الآن فى انتظار نضج الفكرة، حتى أكتبها بالشكل الذى يرضينى».
الفكرة هنا واضحة، ولكن معادلها الروائى ممتنع، ولا حل سوى بالتجريب والانتظار، من أجل أن تخرج الفكرة، ويخرج الرمز، من قلب النص، لا أن يكون مفروضا عليه.
ليقل غانم بعد ذلك إنه لم يقصد أن ترمز شخصية زينب إلى مصر فى روايته «زينب والعرش».
هذا قصده الواعى، وهو صادق.
ولكن الأمر يختلف بمعيار اللاشعور، أو بمعيار احتمال النص الثرى لذلك التفسير.
هو على صواب، ولكن من اختاروا التفسير أيضا على صواب.
محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات