وما أدراك ما الأزهر - أيمن الصياد - بوابة الشروق
الجمعة 3 مايو 2024 1:31 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

وما أدراك ما الأزهر

نشر فى : الأحد 1 مارس 2015 - 7:00 ص | آخر تحديث : الأحد 1 مارس 2015 - 7:00 ص

فى وقت يتزايد فيه الهجوم على الأزهر من ناحية، ويستنجد به العالم كله من ناحية أخرى، لمواجهة تيارات عنف تحمل لافتة الإسلام، تفضل المسؤولون فى جامعته فدعوني لألقي كلمة فى افتتاح موسمه الثقافي الثاني. ولأن اجتزاءً أخل بالمعنى فيما نقلته بعضُ الصحف عن الكلمة، ولأن الكاتب لا يملك فى النهاية غير قلمه، فقد ارتأيت أن أضع النصَ كاملا هنا لمن شاء أن يعود إليه.

الأزهر أواخر القرن التاسع عشر (المصور: غير معروف)

اسمحوا لى بداية أن أعرب عن جزيل شكري وتقديري للذين تفضلوا بدعوتي إلى رحاب الأزهر، الذى هناك للأسف من يجهلُ قدرَه؛ تاريخًا، ومكانةً، وشرفَ أن يدخل إلى رحابه، وأن يتحدث إلى طلبته.

وشكرٌ خاص للأستاذ العميد الدكتور عبدالصبور فاضل، الذى تذكرني فى هذه المناسبة لأجاور تلك القاماتِ الرفيعةِ من الأزهريين المتحدثين فى هذا الملتقى.

ثم أننى أستميحكم عذرًا فى الإقرار بأنني لم أنلْ شرفَ أن أتعلمَ فى هذا المعهد الذى يقوم على حفظ اللغة، وعليه فإنى أطمعُ فى أن تتسعَ صدورُكم لما قد يعتورَ كلمتي من خطأٍ نحوى هنا أو هنةٍ إعرابيةٍ هناك.

أهلا بكم..

هل يظلمون الأزهر.. أم يظلمُ الأزهرُ مكانتَه وتاريخَه؟

أظنه السؤال المِفتاح لمناقشةِ «صورة الأزهر فى الإعلام»، كما طُلب منى اليوم.

هل يظلمون الأزهر.. أم لعلنا ظالمون ومظلومون، لا نعرفُ بالضبط ما الأزهر؛ قيمة ومعنى وجوهرا إن فقدناهُ لم يبق من الأزهرِ غَيْرَ جدرانٍ ولافتةٍ ومكانةٍ بروتوكوليةٍ للإمام الأكبر.

هل هم يظلمون الأزهر؟

أحسب أن الإجابة: نعم.

يظلمون الأزهرَ حين لا يدركون حقيقةَ أنه ابْنُ واقعِه ومجتمعِه ولحظتِه التاريخية. صعودا وهبوطا، قوة وضعفا، ثراء فكريا حين تَكُونُ سمةُ المجتمعِ حريةَ الفكر وثراءَ التنوع. وجدْبا فى أحايينَ أخرى حين تضيقُ بخناقِه السياسةُ وأهواءُ السلطان، وخلافاتُ القصور والخلفاءِ والعواصم؛ بغداد العباسية والقاهرة الفاطمية.

يظلمون الأزهر حين ينسون أو يتجاهلون إن قصته الألفية الطويلة كانت بها دوما ظلالٌ من قصة السلطان الذى لم تعرفه منطقتنا تلك خليفةً أو أميرًا أو رئيسًا إلا وبمعيته فقيهه وسيافه. سواء ارتدى الفقيه عمامة فى مجتمعات تحركها مشاعر الدين، أو كان «إعلاميًا» على شاشة تلفاز، حين يصبح هناك من لم يحفظ غير قصة «جوبلز» الشهيرة.

يظلمون الأزهر مثلا حين ينسون كيف كان «فاطميا» لقرنين من الزمان، قبل أن تتغير وجهته مائة وثمانين درجة مع الأيوبيين، ثم المماليك بعد ذلك.

الأزهرُ فى النهايةِ إذن، كما كان منذ البداية ــ ابن لواقعِه ومجتمعِه ولحظته التاريخية، يتسع باتساعِها ويضيق بضيقها، مهما حاول شيوخه جاهدين مخلصين أن ينأوا به حفاظا عليه. وهذا من طبائع الأمور، ومن سنن الله فى أرضه.

ثم هم ــ بعد ذلك ــ يظلمون الأزهر حين يتهمونه حينًا بأنه مصادرٌ لحرية الفكر والإبداع، ثم يطلبون منه، فى الوقت ذاته أن يصادر كتبًا من تراثه بدعوى أنها تحوى فكرا عفى عليه الزمان.

هم يظلمون الأزهرَ بالتأكيد حين تزدوجُ المعايير، ونحن بتنا على أية حالٍ مرضى بازدواج المعايير، فيطلبون منه أن يفعلَ بالضبط ما يأخذونه عليه: مصادرة الفكر، وإحراق الكتب.

•••

أما نحن؛ الحريصين على الأزهر، فأخشى أن أقول إننا أيضا نظلمه، حين ننسى ــ وكثيرا ما ننسى ــ أن رياحَ ألف عام مرت على رواقه. «والرياحُ لواقح» فما بالُكم بألفِ عام من المذاهبِ والمدارسِ والأفكارِ المتنوعة والمتباينة. أى ثراءٍ بالله عليكم نخسره حين لا ندركُ أن فى التنوعِ ثراء. وحين نتصورُ أن علينا اليوم أن نحجب هذا الفكرَ أو نمنع ذاك الرأي.

أسألكم، وأنتم أدرى مني بالإجابة: هل هناك فكرةٌ واحدةٌ أو رأى واحد ضل طريقَه يوما إلى أحد أركانِ هذا الجامع الجامعةِ عبر ألف سنة مما تعدون؟

تعرفون، ونعرف معكم الإجابة. وتلك ــ لو أحسَّنا القراءة ــ قيمةُ الأزهر «الحقيقية»، التى علينا أن نعض عليها بالنواجز.

لا أدري إن كان أبناؤنا الطلاب يعرفون كيف كان التدريسُ فى الأزهر (حُرا)، واسمحوا لى أن أضع حُرا بين قوسين. كان الطالب (يختارُ) أستاذَه، أو بالأحرى شيخَه. والشيخُ (يختارُ) ما يشاء من كتب يعلِّمها لطلابه. ثم عندما يأنسُ الطالب فى نفسه أنه حصَّل من العلم ما جاء ليُحَصله، تقدمَ لأستاذه ليمتحنه، فإذا أظهر استحقاقَه، وأجازه شيخُهُ، حصل على الإجازة التى تعني أنه قد نال شرف أن يسمى أزهريا.

هى «الحريةُ» إذن فى نظامٍ تعليمي، وفى ثراءٍ معرفي وبحثي، وتنوعٍ فى المدارس والأفكار عبر ألف سنة من الزمان، تبدلت فيها الأحوالُ والأفكارُ.. والمذاهب.

•••

عرف الأزهريون من تاريخهم أن لا أحدَ بوسعه الزعمٓ بأنه وحدٓه يملك الحقيقة المطلقة. ويعرفون بحكم التنوعِ فى تراثهم معنى قولة الشافعى رضي الله عنه: «رأيي، وإن كنت أحسبه صوابا، إلا أنه ككل رأي يحتمل الخطأ. ورأي غيري، وإن كنت أظنه خطأ، إلا أنه يحتمل الصواب».

هى حريةُ الفكرِ والبحث إذن. بلا مصادرةٍ أو إقصاء. مهما كانت اللافتةُ التى تتسترُ بها دعاوى المصادرةِ والإقصاءِ وحرقِ الكتب؛ «قديمة أو حديثة». وأيا ما كانت النياتُ حسنة. سواءٌ كانت محاربةَ التطرفِ والتشددِ وتنقية التراثِ كما يَقُولُ البعض. أو كانت على ناحية أخرى بدعوى الحفاظ على الدين وثوابت الأمة. فللدين ربٌ يحميه. ولا أظن أحدا يجادل فى ذلك.. أما العلم، فلا يعرفُ مصادرة أو اقصاء، وإنما يعرفُ الحِجاجَ والمناظرةَ والبحثَ والنقاشَ. ويعرفُ أن كلا يُؤخذُ منه ويرد.. إلا صاحب هذا المقام؛ عليه الصلاة وأزكى السلام.

عندما أسمع تلك الدعاوى، أستغربُ حقيقة أن هناكَ من يتصور أن بإمكانه أن يحاربَ التشددَ والإرهاب، بالفكرِ ذاته الذى تعيَّش عليه التشددُ والإرهاب.. «إنكارُ الآخر».

كما أستغرب أن هناك من يدعو إلى أن تخلو مكتبةُ الأزهر وأن يُحرمَ دارسوه من كتبٍ ومراجع؛ هى بالضرورة؛ «بوصفها علما» أو حتى من تاريخ العلم متوافرةٌ فى جامعات الدنيا كلِها أمام الدارسين للإسلام ومذاهبه ومدارسه الفكرية.

ينسى الذين اعتادوا على السمع والطاعة والأوامر، أن ما لهذا سُطِّرت الكتب. بل للعلم. والعلمُ يعنى البحثَ والدراسةَ والتدبر. لا السمع والطاعة. وعليه فلا مشكلةَ أبدا فى عبارةٍ هنا أو رأي هناك، مهما رأى البعضُ شذوذا فى تلك العبارةِ أو هذا الاجتهاد. ينسى هؤلاء للأسف أن لا مكان فى ثقافتنا "الحقيقية".. أكرر «الحقيقية»، للانقياد بلا عقل. ولا لأولئك المنقادين «سمعا وطاعة» بل لأولئك «الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ».

•••

والخلاصة أن الأزهر يخسر ونخسرُه، حين ننسى نحن؛ الإعلاميين أو السياسيين ماهيتَه، وجوهرَه القائم على حرية الفكرِ، والبحثِ، والعلمِ، والمعرفة. فنطلبُ منه أن يصادرَ هذا العلم، أو هذا الفكر، أو تلك المعرفة. بل ونطلب منه أن يحرقَ هذا الكتاب أو ذاك، بدعوى أنها كتبُ تراثٍ تقادمت، وتقادمت أفكارها.

ولكنه يخسرُ أيضا، ونخسره، حين ننسى، أو ينسى بعضُ أهله أن الرأى هو فى النهايةِ اجتهاد، وأن الفتوى لا تنتهى (كما نسمع دائما من شيوخ الأزهر الأجلاء) إلا بالعبارةِ القاطعة التى لا محل للخلاف حولها: «.. والله تعالى أعلم»

ثم أنه يخسرُ أيضا ونخسره، حين ينسى بعضُ أهله أنه مؤسسةُ علمٍ ومعرفة، ولا عَلَّمَ ولا معرفةَ بلا حرية، فيقيموا من أنفسهم، أو مصالحهم محاكم تفتيش فى فكر هذا أو انتماءِ ذاك. فنسمعُ مثلا عن حجبِ درجة علمية عن باحثٍ تجرأ فطرحَ فكرة، قد لا توافق هوى عند هذا أو ذاك، أو عند سلطةٍ أيا ما كانت هذه السلطة.

لا تنسوا من فضلكم فتاريخُ الألف عام يُنبئُنا أن الأزهر يخسرُ ونخسره حين يقتربُ علماؤه من السلطة بأكثر مما ينبغى، فيفقد استقلاله.. ومن ثم مصداقيته، فيبتعد عنه الناس.

يخسر الأزهر ونخسره، حين لا يتمسك ونتمسك معه بحرية الفكر والبحث والمعرفة. وحرية الفكر بحكم التعريف لا سلطان عليها لكاهن أو أمير أو خليفة.

جاليليو أمام المحكمة الكنسية
Joseph Nicolas Robert-Fleury, Galileo before the Holy Office, Oil on Canvas

نحتاج أن نعترف، بلا إنكار «وبلا عقدة نقص» أننا عرفنا، فى تاريخنا كله محاربة الفكرة «الأخرى» بحد السيف، إن كان هناك من لا يعجبه الاستشهاد بما جرى للحلاج مثالا، فعودوا إلى ماروى من تفاصيل قصة الإمام الشافعى مع هارون الرشيد.

هم (الغرب) عرفوا ذلك أيضا، زمن حروبهم الدينية (السياسية السلطوية فى حقيقة الأمر) على مدى تاريخهم المسيحى الطويل. كما عرفوه، صارخا فى قرونهم الوسطى، والتى لم يتخلصوا من ربقة أغلالها تحول بينهم وبين المستقبل، إلا عندما أدركوا أن لكل أفكار نقائضها، وأن لا نهضة إلا بمناقشة هذه الفكرة أو تلك، تحريرا للفكر، ومن قبل ذلك للعقل.

نعرفُ جميعا قصة «جاليليو» مع الكنيسة فى القرن السابع عشر. عندما اكتشف عالم الفلك الإيطالي أن الأرض تدور حول الشمس. فاتهمه الكهنة الذين كانت السياسةُ وحساباتُها قد تسربت إلى بلاطهم. تقول الحكاية المعروفة ــ التى لا أمل تكرارها ــ أنهم اتهموه يومها بأنه يقول ما يخالفُ الكتاب المقدس. ثم حاكموه بتهمة الاشتباه بالهرطقة، وحكمت عليه محاكم التفتيش بالسجن ثم الإقامة الجبرية. والأهم بمصادرةِ كتاباته ومنع أفكاره

والحاصلُ ــ نعرف جميعا ــ أن لا المحاكمةَ نجحت، ولا مصادرةَ الكتبِ والأفكار أفلحت فى منع الأرضَ من الدوران حول الشمس، إلى يومنا هذا وإلى أن يقضي اللهُ أمرا كان مفعولا.

كما نعرف جميعا أن الغرب لم يعرف تقدما ولا نهضة إلا عندما تخلص من محاكم التفتيش تلك ليطلق العنان لحرية الفكر والبحث والعلم والمعرفة. هذه الحريةُ التى أحسب أنها بضاعتُنا نحن منذ أن قال لنا رسولُنا الكريم أنتم أَعْلَمُ بأمور دنياكم. ومنذ قرأنا فى الكتاب «فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ»، ثم قرأنا «لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ» أهناك حرية فكرٍ وعقيدةٍ أكثر وضوحا من ذلك؟

•••

بقى أن أقول لكل من يحاكمون الأزهر، أو يطالبونه بما يطيق أو لا يطيق: فقط ارفعوا أيديكم عن الأزهر، ودَعوه أو ادْعوه ليعود إلى جوهره معهدًا علميًا يعرف ثراء التنوع، الذى «لا يصادر فكرا ولا رأيا».

كما بقى أن أُكرر: أن الحاجة ليست لدعوة تَرفع شعارا سمعناه فى تاريخنا الحديث مائة مرة: «تجديد الخطاب الديني»، بل الحاجة الحقيقية هى لتحرير الخطاب الديني، كما تحرير كل خطاب؛ عرضا ودراسة ومناقشة ومقارعة الحجة بالحجة.

ولكن أعود إلى ما بدأت به: فالأزهر ابن مجتمعه، وثقافة مجتمعه.

والحال هكذا، أُكرر: فلا تحرير لخطاب ديني أو غيره، إلا بمناخ من الحرية يسود المجتمع ويصبح عماد ثقافته؛ حرية تسمح بمعارضة الرئيس أو الأمير أو الخليفة، فتسمح بالتالي بمعارضة أو مناظرة هذا الفقيه أو ذاك الشيخ؛ كبيرا كان بقامة المودودي، أو صغيرا لا يعدو أن يكون إماما لزواية صغيرة فى مدينة جامعية. باختصار: الحرية ثقافة وتربية.. والمرء على ما تربى عليه.

أشكركم

•••

وبعد..

فهذه المقالة / المحاضرة محاولة لاستكمال ما كنت قد بدأته هنا قبل أسبوع عن الجدلية المزمنة؛ السلطة والدين فى شرقنا / وغربهم. وكان هناك من سألني تعليقا على مقال الأسبوع الماضي: إن ما كان علينا أن ننتظر «النهضة» أربعة قرون كما حدث على الضفة الأخرى من المتوسط؟ وإجابتي البسيطة أن ليس من الحكمة أبدا أن نحاول اليوم «اختراع عجلة» اخترعها أهلُ الرافدين سنة ٣٥٠٠ قبل الميلاد. وأحسب أنكم تتفقون معى.

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

لمتابعة الكاتب:

twitter: @a_sayyad

Facebook: AymanAlSayyad.Page

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

روابط ذات صلة:

ــ عن العنف والذبح والوحشية

ــ عن الحرية والاستبداد والسلطة .. قراءة في السيرة

أيمن الصياد  كاتب صحفى
التعليقات