تحل غدًا الأربعاء ذكرى ميلاد الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه، إذ وُلد في الـ15 من أكتوبر عام 1844، ورحل في الـ25 من أغسطس عام 1900.
يُعد نيتشه أحد أهم الفلاسفة في التاريخ الحديث، ومن أبرز رموز الفلسفة الوجودية والعدمية، وينظر إليه كثيرون بوصفه فيلسوفًا أدبيًا، لما تحمله لغته من شاعرية وعمق تأملي يندر وجودهما في الكتابات الفلسفية الصارمة.
هكذا تكلم زرادشت.. دهليز الفلسفة النيتشوية
يُعتبر كتابه الشهير «هكذا تكلم زرادشت» أحد أهم إنجازاته الفكرية والفلسفية، إذ يجسد جوهر فلسفته، ويعبر عن طريقته الأدبية والشعرية في صياغة أفكاره، كما أن نيتشه يصفه بأنه «كتاب للكل، ولا أحد»، وهو وصف دقيق يمثل فلسفة نيتشه بشكل عام.
يتألف الكتاب من أربعة أجزاء صدرت بين عامي 1883 و1885، ويتكون من سلسلة من المقالات والخطب التي تسلّط الضوء على تأملات زرادشت، وهي شخصية مستوحاة من مؤسس الديانة الزرادشتية.
وقد لخّص نيتشه أفكاره الفلسفية في هذا الكتاب، الذي وصفه بأنه «دهليز فلسفتي»، ويُعد علامة بارزة في تاريخ الفلسفة الألمانية؛ فعلى الرغم من مرور أكثر من مائة عام على تأليفه، لا تزال لأفكاره أصداء وتأثيرات واسعة، إلى درجة أن البعض يعدّه من أعظم مائة كتاب في تاريخ البشرية.
زارا.. الإنسان الأعلى الذي أراده نيتشه
ويتمحور الكتاب حول شخصية حقيقية، وهو مؤسس الديانة الزرادشتية زرادشت، الذي وُلد وعاش في مناطق أذربيجان حوالى 650 ق.م، وأسس الديانة الزرادشتية، وظلت تعاليمه وأفكاره منتشرة في المنطقة.
يتناول الكتاب قصة زرادشت، وهي نسبه إلى «زارا»، وهو شخص جاء بعد سنوات من التأمل أعلى جبل ليقدّم حكمته إلى العالم، ويطرح نيتشه في فلسفته فكرة أن الإله قد مات، وأن معبود الناس قائم من وهمهم، وأنه تعبير مجازي لم يُقصد به الإله السماوي، وعلى الرغم من أنه عمل فلسفي بشكل أساسي، إلا أنه يُعتبر تحفة فنية في الأدب.
دعا نيتشه في الكتاب إلى تحطيم ألواح الوصايا جميعها، وإلى خلق دستور جديد، وتصور الإنسان صانع قدره، وعن الخير والشر، يقول نيتشه: «لقد أقام الناس الخير والشر فابتدعوهما لأنفسهم، وما اكتشفوهما ولا أُنزلا عليهم بهاتف من السماء.. لقد وضع الإنسان للأمور أقدارها ليحافظ على نفسه، فهو الذي أوجد للأشياء معانيها الإنسانية.. ما خلق الخير والشر في كل عصر إلا المتهوسون المبدعون، وما أضرم نارهما إلا عاطفة الحب وعاطفة الغضب باسم الفضائل».
تأثير أفكار نيتشه في هكذا تكلم زرادشت
لقد أثرت أفكار نيتشه الواردة في هذا الكتاب في مجالات إنسانية متعددة، كالحرب والسياسة والفن، فعلى سبيل المثال، كان بعض الجنود في الحرب العالمية الأولى يضعونه في حقائبهم، بينما رأى البعض الآخر أن أفكاره حول «الإنسان المتفوق» مثّلت الأساس الذي قامت عليه الأيديولوجيا النازية، التي أشعلت الحرب العالمية الثانية.
كما امتد تأثير هذا الكتاب إلى الفنون، ومن أبرز مظاهر ذلك المقطوعة الموسيقية الشهيرة التي ألّفها ريتشارد شتراوس وحملت الاسم نفسه، وكذلك فيلم «أوديسة الفضاء» لستانلي كوبريك، الذي استلهم بعضًا من فكر نيتشه.
الإنسان المتفوق في هكذا تكلم زرادشت
يرى نيتشه أن على البشر أن يسعوا إلى تحقيق أهدافهم الكلية، وأن الإنسان المتفوّق هو من يستطيع تحقيق هذه الأهداف والارتفاع إلى مستوى الحب القدري.
وبهذا جعل نيتشه الإنسان مؤدبًا للإنسان، إذ لا يمكن للمرء أن يبلغ أفضل ما فيه دون أن يواجه أسوأ ما فيه، وهذا ما يظهر جليًا في الكتاب.
لم يكن نيتشه ينادي بتحرير الغرائز بقدر ما كان يسعى إلى إضفاء الصبغة الروحية عليها، وتحويل الطبيعة إلى عمل فني خالد، والعودة إلى الأبدي.
ويمثل نيتشه في الواقع نزعة عدمية بأحلك صورها، إذ يقول إن الحقيقة والكذب يُوظفان دائمًا من أجل الكائن المتفرد، وإن الحقيقة والوعي والعقل والموضوعية والأخلاق، وكل ما على الأرض في هذا الزمن، إنما يبرهن، خطوة بعد خطوة، على كونه تدهورًا أمام قرف الحياة، وأمام هذا العجز والإحباط، يرى نيتشه أن لا مخرج سوى تحرر الأنا والدخول في نيرفانا الفناء.
المرأة في هكذا تكلم زرادشت.. تعبير عن نظرة نيتشه
في «هكذا تكلم زرادشت» يذم نيتشه المرأة، رغم نشأته وتربيته في بيئة نسائية، إذ ترعرع طيلة حياته مع أمه وأخته بعد وفاة والده وهو في الخامسة من عمره، وكانت نتيجة ذلك فلسفة قاسية تجاه المرأة.
في كتابه، يحذر من اتخاذ المرأة صديقة، معتبرًا أنها لا تصلح إلا للحب، وأنها مجرد لعبة للرجل، ولا هدف لها سوى الإنجاب.
ويرى أنها لا تعرف الشرف ولا تدرك معناه، ويذكر في الجزء الأول من كتابه قوله: «إذا ذهبت إلى المرأة، فلا تنس السوط».
وبحسب مفهوم نيتشه، فإن هدف الزواج ينحصر في إنتاج «الإنسان المتفوق»، لذا يجب أن يُقام الزواج بأقصى قدر ممكن من الكمال، وأن يسبقه تعايش وتجربة بين الطرفين ليتأكدا من إمكانية الارتباط إلى الأبد.
كما وجّه نيتشه انتقادات لاذعة لحركات التحرر النسوي في أوروبا، التي طالبت بالمساواة بين الجنسين وبحقوق المرأة، معتبرًا أن النساء اللاتي يطالبن بالمساواة إنما هنّ فاقدات لأنوثتهن، ولجأن إلى تلك الشعارات بدافع من الغيرة والحقد، بحسب وصفه.
ولكن المفارقة في رأي نيتشه حول المرأة، الذي ظهر في الكتاب، هي عبارته «إنني لم أجد المرأة التي تصلح أمًا لأبنائي إلا المرأة التي أحبها»، وهي مفارقة تؤكد على تخبطات في شخصية نيتشه.
أفكار هكذا تكلم زرادشت.. الإرث والتأثير
يتفق كثير من المفكرين على أن أفكار نيتشه وفلسفته، الذي يعبر كتابه الأشهر «هكذا تكلم زرادشت» عنها، تحمل نزعات راديكالية غير صائبة، تتسم بالعداء للديمقراطية وبنظرة سافرة ضد النساء.
لكن، منذ منتصف القرن الماضي، أعاد رواد مدرسة فرانكفورت اكتشاف فكر نيتشه، ورأى فيه مفكرو ما بعد الحداثة الفرنسيون، أمثال جيل دولوز وميشيل فوكو، منبعًا لمناهضة اليسار الأوروبي والسلطات الأيديولوجية التقليدية، ومرجعًا لفكر جديد أكثر تحررًا وتفكيكًا.