- أيقونة البهجة والشجن.. تجاوز بفنه اللوحة إلى أسطورة خالدة فى ذاكرة الوطن
لم يكن حلمى التونى مجرد فنان تشكيلى، بل كان حارسًا أمينًا لذاكرة جيل كامل، برحيله عن عالمنا فى السابع من سبتمبر 2024، فقدت مصر والعالم العربى أيقونة فنية لا تُضاهى، لم تقتصر بصمتها على اللوحات الفنية، بل تسللت إلى كل ركن فى حياتنا الثقافية؛ من أغلفة الكتب الملونة إلى ملصقات الأفلام والمسرحيات التى تحمل عبقريته.
ما يميز فن «التونى» ببساطة هو أنه يقدم فنًا يلامس الجميع؛ الطفل الذى يقلب صفحات قصص مصورة، والقارئ الذى ينجذب لغلاف كتاب، والمشاهد الذى يتأمل عملاً فنيًا لا يُنسى، فالتونى كان يرى أن بإمكان غلاف الكتاب تثقيف الشخص فنيًا، خاصة لأن الجميع لا يذهب إلى المتاحف، ولكنه من السهل المرور على غلاف كتاب، وكذلك الحال بالنسبة لكتب الأطفال التى قام بتصميمها، وتشير التقديرات إلى أنه صمم ما يزيد عن ثلاثة آلاف غلاف كتاب، لكل منها بصمته الخاصة وروحه المميزة.
حلمى التونى ابن صعيد مصر المولود فى محافظة بنى سويف عام 1934، تشرب منذ نعومة أظفاره حب الفن وتذوق الجمال، فكانت دراسته للديكور المسرحى فى كلية الفنون الجميلة حجر الزاوية الذى بنى عليه رؤيته الشاملة، التى جمعت ببراعة بين فنون الزخرفة، والتصميم، والتصوير الزيتى.
بينما كانت القاهرة هى نقطة انطلاق مسيرة التونى الفنية والمهنية بعد تخرجه عام 1958، شكلت «بيروت» والتى كانت عاصمة الثقافة العربية حينها محطة فارقة فى حياته، فهناك قضى التونى ثلاث سنوات، كانت كافية ليترك بصمته هناك، حيث أسس المؤسسة العربية للدراسات والنشر، التى أصبحت من أكبر دور النشر فى العالم العربى خلال السبعينيات، كما أثرت السنوات الثلاثة فى أسلوبه ومنحته أبعادًا جديدة انعكست على أعماله الفنية لاحقًا. كان التونى فنانًا يؤمن بأن الفن ليس حكرًا على الجدران، بل يجب أن يكون فى متناول الجميع، هذه الفلسفة قادته إلى أن يصبح من أبرز الفنانين فى مجال تصميم الكتب والمجلات فى مصر والعالم العربى فقدم أعمالًا لم تكن مجرد رسومات، بل دعوات بصرية تخاطب القارئ وتثير فضوله.
وعن تاريخه الحافل باللوحات الفنية فضلًا عن عمله طوال 50 عامًا فى مجال رسم وتصميم أغلفة الكتب، والمشروع الكبير للوحاته على أغلفة مجلة «الكتب.. وجهات نظر» التى صدرت عن «دار الشروق»، يروى التونى فى حوار سابق لـ«الشروق» بداية حلمه مع مجلة «الكتب.. وجهات نظر»، كاشفًا أنها كانت محاولة منه ليجمع بين الإبداع، وبين الوظيفة الإعلامية، قائلًا: «بذلت فيها مجهودا كبيرا فى البداية منذ مرحلة التخيل والإنشاء، وكنت أصممها وكأنى أتوج بها مسيرتى».
ويُعد حلمى التونى جامعة فنية مستقلة ومتفردة، لم تقتصر عبقريته على موهبته الفذة، بل امتدت لتجعله معلمًا وملهمًا لأجيال من الفنانين، فكل من تتلمذ على يديه أصبح نجمًا ساطعًا فى مجاله، وحصد العديد من الجوائز، ونالت إبداعاته احتفاء واسعًا فى الأوساط الفنية والثقافية.
هذا الإرث التعليمى يثبت أن التونى لم يكن مجرد فنان يجمع فى أعماله بين الفن التشكيلى والجمل الغنائية، بل كان مؤسسة فنية متكاملة، وقائدًا حقيقيًا للتجربة الصحفية والفنية فى مصر. المتابع لفن «التونى»، يجده يطل من بين ألوانه كأنه يحكى سيرة مصر عبر وجوه نسائها وملامحهن وأزيائهن وإيقاعات حضورهن، ففى لوحاته تتجاور الطبيعة مع الروح؛ هذا لأن رسوم التونى ليست مجرد لوحات، بل هى رموز خالدة تحلق كـ«سحابة معلقة إلى جوار الشمس»، وكأنها موجودة فى كل الأزمان.
هذه الشخصيات الأبدية تحمل معها دلالات عميقة، فكل منها رمز لصفة أو حكمة: مزمار لليقظة، هدهد للتنبؤ، سمكة للرزق، ووردة للحب، فهى رموز للحياة والعطاء، فمنها ما يحمل آنية للعطشى، وأجنحة للطيران، وسيفًا للنصر، كما أنها تجسد قيمًا راسخة مثل الصبر (نخلة)، والثقافة (طير)، والقوة الروحية (فرس). هذه الشخصيات لا تنتمى لزمن محدد أو مكان معين؛ فهى تجمع بين الأسطورة والتاريخ، كـ«طفل يرتدى طربوش الأجداد»، أو «هرم» يُتبرك به، إن التونى لا يستحضرها لتكون أبطالًا فى لوحاته، ولكنه يخلقها كشخصيات خالدة، تتمتع بالحكمة والشباب والقوة، وكأنها تنتظر أن تُبعث فيها الروح لتُصبح جزءًا من عالمنا.
هذه اللوحات تُظهر لنا شخصيات أبدية ووديعة تقرأ الغيب، ولكنها تظل صامتة، لا تبوح بما تعرف. وعلى امتداد تجربته، بدا التونى صانعًا للبهجة، حتى وهو يفتح نوافذ على مساحات من الشجن.
كل لوحة تثير الدهشة بقدر ما تبعث من الفرح، لتكشف أن البهجة ليست سطحية بل ممتدة فى عمق الروح، وظلت معارضه الفنية المقامة تثير لدى محبيه وجمهوره سؤالا حول الانتظار، ماذا سيقدم التونى فى المرة القادمة؟ هل هى ملكة فرعونية أم امرأة ريفية؟ هل هى ملامح زمن أم كلثوم أم صورة عابرة لامرأة مصرية عادية؟ فكل هذه الوجوه تسكن داخل لوحاته، ومن خلالها تعيش أيضًا داخل المتلقى، فمن خلالها يعيش لحظة يختلط الشجن فيها بالفرح، ويتحول الحزن نفسه إلى بهجة مغايرة، مدهشة فى قدرتها على إشاعة الدفء.
ما يفعله التونى يتجاوز حدود إحياء التراث الشعبى، فهو يخلق تراثًا بصريًا جديدًا لمصر، يضاف إلى رصيدها فى مسار قوتها الناعمة. لذلك تبقى لوحاته عالقة فى الوجدان، لا تفقد بريقها مع الزمن، بل تتجدد فى أعين الرائى مع كل تأمل جديد. كان التونى يرى فى الفن أداة للتعبير عن الروح والوجدان، وكانت أعماله، سواء فى لوحاته الزيتية أو فى أغلفة كتبه، تجمع بين الواقعية والسريالية، وتستلهم من الفن الشعبى المصرى والعربى، مما أعطاها طابعًا فريدًا يميزها عن غيرها.
وفى ذكرى رحيله، فمن الواجب ألا ننسى شغفه الأكبر بفن الأطفال، حيث كان يؤمن بأن الطفل هو القارئ الأهم، فأبدع فى رسم وتصوير العديد من قصص الأطفال التى نُشرت بعدة لغات بالتعاون مع منظمات تابعة للأمم المتحدة، وحظيت أعماله بتقدير عالمى، حيث فاز بجوائز مرموقة مثل جائزة بولونيا لكتاب الطفل المرموقة عام 2002 وجائزة اليونيسيف عن ملصقة العام الدولى للطفل عام 1979، وكذلك جائزة معرض بيروت الدولى للكتاب لمدة ثلاث سنوات متتالية منذ عام 1977 إلى عام 1979.
بالإضافة إلى الفوز بميدالية معرض (ليبرج الدولى لفن الكتاب) الذى يقام مرة كل ست سنوات. كان التونى رسامًا ومصممًا، لكنه كان قبل كل شىء معلمًا يدرك أن الفن ليس حكرًا على الجدران، بل هو ملك للجميع، ويمكن أن يكون فى متناول اليد، على غلاف كتاب يمر به كل يوم. فى ذكرى رحيله، سيبقى إرثه الفنى والثقافى خالدًا، شاهدًا على عبقرية فنان آمن بقوة الصورة، وجعل منها وسيلة للحكى، والتوثيق، والجمال.