فى البداية، لا يتعلق موضوع المقال بنظام سعر صرف معيّن فى بلد محدد، بل هو فقط محاولة لفهم الأدوات المختلفة التى يمكن أن تستخدمها البنوك المركزية لإدارة أسعار صرف العملات الأجنبية، مع الاحتفاظ بنظام مُعلن يزعم التحرير.
لم يكن سعر الصرف فى أى دولة مرآةً صافية لحقيقة العرض والطلب، ولا كان فى معظم الأحيان انعكاسًا موضوعيًا لميزان المدفوعات أو لحركة الأصول الأجنبية داخل الجهاز المصرفى. فهناك دائمًا ذلك الهامش الذى يتحرك فيه صانع السياسات، بغية تهدئة الأسواق أو تشكيل توقعاتها، عبر وسائل مباشرة وأخرى غير مباشرة، بعضها معلن وبعضها يعمل فى الخفاء. ومع اتساع الفجوة أحيانًا بين القيمة التى يفترضها النموذج الاقتصادى والقيمة التى يصنعها التدخل، تتولد لدى المتابعين أسئلة مشروعة عمّا يجرى خلف الستار، وعن حدود الدور الذى تلعبه الأدوات غير التقليدية فى تشكيل مسار العملة. وهذه ليست خصوصية محلية، بل نمطا عالميا أوسع من أن يُختزل فى حالة واحدة.
• • •
تتخذ التدخلات غير المعلنة أشكالاً عدة، منها ما يعتمد على تغيير طريقة إدارة السيولة الدولارية داخل البنوك، ومنها ما يقوم على استخدام أدوات تعطى السوق انطباعًا مخالفًا للحقيقة الراهنة، دون أن تضطر الجهة المنظّمة إلى المساس الفورى بالاحتياطى النقدى. هنا تبرز أهمية عقود المبادلة (swaps) التى تسمح بمقايضة مبالغ بالعملة المحلية مقابل مبالغ بالعملة الصعبة (الدولار فى الغالب) على أن يُعاد تبادلها لاحقًا بسعر متفق عليه.
هذه الآلية تمنح الطرف الذى يعانى شحًا فى الدولار قدرة مؤقتة على إظهار وضع أكثر استقرارًا، إذ يحصل على سيولة فورية دون تسجيل تخفيض مباشر فى الاحتياطى. بيد أن هذا النوع من العمليات لا يغيّر حقيقة أن المخاطرة تنتقل إلى المستقبل ولا تختفى، وهو ما يفسر انتقادات عديدة وُجهت إلى الإفراط فى استخدام عقود المبادلة خلال أزمات الأسواق الآسيوية وأسواق أمريكا اللاتينية فى التسعينيات من القرن الماضى.
ويتشابه مع تلك العقود أداة أخرى هى العقود الآجلة (forwards) التى تتيح بيع الدولار أو شرائه بسعر مستقبلى مختلف عن السعر الفورى. ويمكن لهذه العقود أن تُشكّل منحنى للسعر يعكس توقعات «مصطنعة» بأن العملة المحلية بصدد التحسن، حتى لو كانت السوق الفورية تعانى شحًا آنيًا مزعجًا. حين ترى الأسواق أن الأسعار المستقبلية للعملة الوطنية أعلى من السعر القائم، يتشكل انطباع بأن الوضع مؤقت وأن الإمدادات ستتحسن، وهو ما يقلّص شهية المضاربين ويؤخر ظهور سوق موازية حتى مع وجود اختناقات فى الدولار. وهكذا تصبح الفجوة بين السعر الآنى والسعر المستقبلى أداة لإدارة التوقعات أكثر منها انعكاسًا للقدرة الاقتصادية الفعلية.
• • •
قد استخدمت دول عديدة هذه الأدوات على نطاق واسع، فلجأت تركيا قبل عام 2021 إلى بنوك حكومية كأذرع تنفيذية لضخ الدولار فى السوق عبر عمليات لا تظهر فى بيانات الاحتياطى، بالتوازى مع عمليات عقود مبادلة واسعة حجبت جزءًا من الضغط عن الليرة. وفى الأرجنتين، تم تثبيت أسعار مستقبلية عبر عقود آجلة عند مستويات أدنى بكثير من السعر الحقيقى، ما صنع انطباعًا بقوة العملة ثم أدّى لاحقًا إلى فجوة ضخمة بين السعر الرسمى والسوق الموازية، قبل أن تنهار الآلية كلها بفعل اتساع الخسائر المؤجلة. وفى كوريا الجنوبية خلال الأزمة المالية العالمية، اتسع استخدام عقود المبادلة بصورة ضخمة لتوفير الدولار للشركات الممولة خارجيًا، دون الإفصاح المباشر عن حجم النزيف فى العملة الأجنبية.
وتشير التجارب الدولية كذلك إلى أن غياب السوق السوداء فى لحظات الضغط لا يعنى غياب الضغط نفسه، بل يعنى أن الأدوات المستخدمة ــ وخاصة عقود المشتقات كعقود المبادلة والخيارات والعقود الآجلة والمستقبلية ــ قد نجحت فى موازنة التوقعات أو فى تقليص المعاملات الفورية إلى الحد الذى تصبح معه السوق الحاضرة غير ممثلة للطلب الحقيقى. حدث هذا فى تجارب شرق آسيا قبل الأزمة المالية العالمية، حين اعتمدت حكومات عدة على عقود آجلة مصممة لطمأنة الأسواق، فتأخرت الاستجابة الناجعة للأزمات حتى تراكمت المراكز الآجلة وظهرت هشاشة الوضع دفعة واحدة.
وتعرف الاقتصادات الكبرى مثل الصين والهند طرقًا مختلفة لتجنّب ظهور التدخل فى البيانات الرسمية. ففى الصين خلال 2015 ــ 2016، استُخدمت البنوك المملوكة للدولة لإجراء عمليات دولارية نيابة عن البنك المركزى، بحيث لا يظهر الانخفاض فى الاحتياطى كما هو. وفى الهند، كان البنك المركزى يجيز للبنوك الحكومية تنفيذ مبيعات كبيرة من الدولار، بينما تبقى البيانات الرسمية مستقرة على نحو يوحى بأن الروبية تتماسك تلقائيًا، رغم أن التدخل كان جاريًا عبر قنوات خلفية.
فى الاقتصادات الناشئة تحديدًا، تظهر فائدة إضافية لعقود المشتقات، إذ تمنح البنك المركزى أو الاتحادى قدرة على تضليل التوقعات التى قد تفضى سريعًا إلى ظهور سوق موازية لسعر الصرف. فحين يكون السعر الفورى غير معبّر عن حقيقة الندرة، لكن منحنى الأسعار المستقبلية يوحى بانفراج قريب، يخفّ عبء التوقعات وتنحسر الدوافع لالتماس الدولار خارج القنوات الرسمية. وهذا بدوره يخلق انطباعًا زائفًا بأن العملة المحلية تتعافى، بينما قد تكون الأدوات المشتقة هى التى تتولى إدارة المشهد عبر إشارات إيجابية خادعة.
• • •
فى الحالات التى يشهد فيها الاقتصاد اختناقات دولارية، قد تتوسع البنوك الحكومية فى استخدام عقود مبادلة العملة مع البنوك التجارية أو مع مؤسسات خارجية لتوفير سيولة مؤقتة، وتنعكس هذه العمليات على مراكزها بالعملة الأجنبية بصورة لا تسمح بتفسير واضح من خلال البيانات المنشورة. ويحدث ذلك أيضًا مع العقود الآجلة حين ترتفع الالتزامات الآجلة مقابل الدولار بينما يبقى السعر الفورى مستقرًا أو فى تحسّن. وفى هذه الحالة لا يمكن للجمهور تقدير حجم المراكز الآجلة ولا مدى اعتماد الاستقرار الظاهرى عليها، لأن البيانات المنشورة عادة ما تأتى مجمّعة أو متأخرة.
وعند تحليل بيانات أى دولة تشهد فجوة بين وفرة الدولار المعلنة وشحّه الفعلى، يستخدم المحللون عادةً مؤشرات غير مباشرة. من أهمها التغيرات فى صافى الالتزامات الأجنبية للبنوك، واتساع الفجوة بين السعر الفورى والآجل فى الإنتربنك، وتضخم مراكز المشتقات قصيرة الأجل، وتزايد الاقتراض الخارجى للبنوك دون تحسّن جوهرى فى صافى الأصول الأجنبية.. وكلها إشارات مرجّحة لاعتماد أى استقرار حالى فى سعر الصرف على أدوات مهيكلة أكثر منه على تدفقات نقد أجنبى فعلية.
وفى الحالة المصرية، تُقرأ بعض المؤشرات بالطريقة نفسها التى تُقرأ بها فى الأسواق الناشئة الأخرى. فأحيانًا ترتفع الالتزامات قصيرة الأجل وتتراجع التدفقات الأجنبية المباشرة، مع بقاء السعر الرسمى مستقرًا أو فى تحسّن. وقد فسّر بعض المحللين هذا الوضع باحتمال توسع استخدام السوابس swaps والفوروردز forwards على مستوى البنوك الحكومية والتجارية لتوفير سيولة مؤقتة بالدولار أو لإدارة التوقعات، خاصة عندما يتأخر ظهور سوق موازية للدولار تعكس فرق التضخم بين دولتى الإصدار وعجز ميزان المدفوعات. غير أن البيانات المنشورة لا تكفى للجزم بوجود تدخل منظم من عدمه، لأنها لا تُظهر نوعية هذه العقود ولا أطرافها ولا توقيتات استحقاقها. وكما فى تجارب دول أخرى، قد يكون بعض هذه العمليات بدافع التحوّط العادى والضرورى كذلك، وقد يكون بعضها موجّهًا لدعم الاستقرار المصطنع، ولا سبيل للفصل بينهما دون شفافية أكبر.
• • •
المشكلة هنا لا تكمن فى استخدام المشتقات وبدائل التحوّط ضد تقلبات العملات، بل فى درجة التوسّع فى استخدامها والاعتماد عليها كبديل عن الإصلاح الهيكلى أو كستار يخفى عجزًا طويل الأجل فى موارد النقد الأجنبى. والأزمات الشهيرة ــ من المكسيك فى التسعينيات إلى الأرجنتين فى العقد الماضى ــ تُظهر أن الاستقرار الصورى عبر المشتقات لا يصمد إلا بقدر ما يستند لاحقًا إلى اقتصاد قادر على توليد تدفقات حقيقية ومستدامة.
ومع ذلك، يبقى من المهم التأكيد على أن استقرار العملة (سواء فى مصر أو فى غيرها) يجب ألا يُقرأ بمعزل عن المؤشرات الكلية، مثل: هيكل ومصدر الديون، وموقف الاحتياطى، وقدرة الاقتصاد على توليد الدولار، ومعدل استهلاك هذا الدولار فى خدمة الالتزامات. وإذا كان الاستقرار الفورى يتحقق عبر أدوات تعميق أو تهدئة للتوقعات، فإن الاستقرار المستدام لا يتحقق إلا حين تكون تلك الأدوات مكمّلة لأساس مالى واقتصادى قوى وليست بديلاً عنه.
وفى عالم شديد الترابط، لا يمكن إخفاء الاختلالات طويلاً مهما توافرت الأدوات المالية، لأن الأسواق العالمية تتعقّب المراكز المكشوفة وتعيد تقييم العملات بمجرد ظهور أول إشارة ضعف. لذلك يصبح التعويل الحقيقى على بناء قوة الاقتصاد لا على هندسة سعر الصرف، وعلى خلق موارد مستدامة للنقد الأجنبى، لا على ترحيل الضغوط إلى المستقبل. فالعملة ليست سوى انعكاس لمتانة الاقتصاد وقدرته على الوفاء بالتزاماته، وكل ما عدا ذلك ــ مهما أتقنت أدواته ــ يظل مؤقتًا وعرضة للانهيار عند أول اختبار أو صدمة.