x قد يعجبك أيضا

الشتاء رومانسية هنا.. وحُكم بالإعدام هناك

الأحد 21 ديسمبر 2025 - 7:20 م

 يحلّ الشتاء فجأة، أو هكذا يبدو، فتسقط درجات الحرارة عشرة أو أكثر بين ليلة وفجر. يصمت صوت المكيّفات، التى هى أعلى صوت فى دولنا الخليجية، وهى الأكثر رحمة فى صيف يطول ويطول حتى يصبح هو أطول فصولنا كلها، بل ربما فصلنا الوحيد.

• • •

تسقط بضع زخّات مطر، ومعها ريح خفيفة تتحوّل سريعًا إلى رياح وأمطار أكثر غزارة، ولكنها لا تشبه بالطبع ما تعيشه شعوب الأرض الأخرى. نجرى إلى بيوتنا باكرًا، نلاحظ أن الشمس تجرى سريعًا إلى مسكنها، تاركة إيانا فى عتمة ليلة مبكرة. نوصد النوافذ، بل نُحكم إغلاقها، نراكم البطاطين أو نخرجها من مخزنها الذى تسكنه أطول فترة، فنحن لا نعرف إلا قسوة فصلين بدلًا من فرحة الفصول الأربعة.

• • •

صيف حار بقسوة، وشتاء منعش ربما بعد طول الغياب، إلا أنه لا يطول ولا استدامة له، ولكنه أحيانًا يخترق الجسد لشدة الرطوبة. يتغيّر الكون حتى فى فصوله، هكذا نُصبّر أنفسنا بشتاء قصير، فيما كان فصلًا مكتملًا نستعد له كما تفعل شعوب الأرض.

• • •

تتجه العائلات إلى الأسواق للبحث عن الجديد من ملابس الشتاء، وخاصة المعاطف الصوفية، أما المقتدرون فينتظرون التبضع أو ما يحضره البعض من هدايا من عواصم الأناقة: بيروت، ولندن، وغيرها من العواصم الأوروبية. هذا طبعًا بالنسبة للمقتدرين من الخليجيين، أما الأغلبية من الطبقة المتوسطة فما تحتها، التى أُعطيت لها تسميات عدة مؤخرًا للتخفيف من حجم الصدمة، فيستخدمون كلمات «تلطيفية»، فبدلًا من وصف فقير ومحتاج صار تعريفهم أنهم «ذوو الدخل المحدود». أما الطبقة المتوسطة فقد دُفنت ولم يُسمَّ عليها أحد، وتحولت إلى مادة بحثية كالديناصورات ربما!!

• • •

يتذمّر الكثيرون من برد الشتاء البسيط، رغم أنهم كانوا فى انتظاره كانتظار غودو!! يبحثون عن معطف أثقل، ويغلون الشاى السنجين أو الكرك ليعيد للروح بعض سكينة الدفء. ويستمرّون فى الشكوى، فيما الشتاء هناك يعصف بهم، فتطير الخيام مع أول نفس ريح، كأنها أوراق يابسة لا وزن لها. وتنهمر الأمطار، وتستبيح المساحات الضيقة التى احتمى بها من نجوا من قصف دمّر منازلهم ومساجدهم وكنائسهم ومدارسهم، فلم يبقَ حجر فوق حجر.

• • •

تتحوّل الخيمة إلى مستنقع، والبطانية إلى قطعة قماش مبللة، أو ربما قطعة من الثلج، والطفل إلى جسدٍ يرتجف لا يعرف لماذا أصبح الشتاء جزءًا من الحرب عليه وعلى عائلته وكل أهله!!

 

• • •

هنا، نحن نعدّ المطر نعمةً رومانسية، وهناك، يُعدّ حُكمًا بالإعدام لمن لم يمت بغيره.

تُقفل المعابر. لا حبّة رز، ولا حبّة فول، ولا حبّة عدس، ولا حبّة دواء.

حتى الحليب يصبح حلمًا، والدفء ترفًا، والبقاء مسألة وقت لا أكثر. فيموت الرضيع من شدة البرد، لا لأن الشتاء قاسٍ، بل لأن العالم أقسى عندما وقف يتفرّج على حرب إبادتهم وتطهيرهم العرقى. يموت الفلسطينى إن لم يكن برصاصة قنّاص متعمّدة فى رأس طفل، كما شهد كثير من أطباء العالم، أو بقذيفة تطارد الأرواح الحرة، أو بصواريخ «متطورة جدًا» مثل كل أسلحتهم، إلا أنها تصطاد الأبرياء أو تبتر أطرافهم على وقع ضحك الجنود واحتفالاتهم بانتصاراتهم المبهرة فى مطاردة الأجساد التى هلكت من قلّة الرحمة وطول الظلم والحصار!!!

• • •

وفى الجهة الأخرى من الصورة، يحتفل الكثيرون، وربما هذا من حقهم أيضًا، فهناك مولود جديد قادم إلى هذه الحياة، فتكثر الملابس بألوانها الزاهية، وتُعمَّر الموائد بما لذّ وطاب، وتُلتقط الصور والضحكات. لا ذنب لهم ولنا عندما يحتفل بعضنا بالحياة، ولكن هناك تُقتل الحياة كل يوم بصمت وبرود وقسوة أكبر من قسوة طقس الشتاء.

• • •

الذنب فى الاعتياد، لا فى البرد. فى أن نشتكى قسوته ونحن محاطون بالدفء، وأن نمرّ على وجوه أطفال غزة المرتجفة مرور العابر على خبرٍ يومى. هناك، لم يعد الشتاء فصلًا عابرًا، بل امتحانًا قاسيًا لنا. عندما تتغطّى ببطانيتك وأنت جالس فى منزلك الدافئ، تتفرّج على مسلسلك المفضل، فكّر بهم.

• • •

كتب محمود درويش:

وأنت تعدّ فطورك، فكّر بغيرك

 

(لا تنسَ قوت الحمام)

وأنت تخوض حروبك، فكّر بغيرك

(لا تنسَ من يطلبون السلام)

وأنت تعود إلى البيت، بيتك، فكّر بغيرك

(لا تنسَ شعب الخيام)

وأنت تنام وتحسب الكواكب، فكّر بغيرك

(ثمّة من لم يجد حيّزًا للنوم)

مقالات اليوم

قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك

بوابة الشروق 2025 - جميع الحقوق محفوظة