x قد يعجبك أيضا

القرار رقم ٢٨٠٣.. فى أولوية الواقعية السياسية

الجمعة 21 نوفمبر 2025 - 6:30 م

فى أعقاب صدور قرار مجلس الأمن رقم ٢٨٠٣ بشأن غزة، تبدو الحاجة ماسة إلى قراءة هادئة لنص القرار ذاته، ثم استيعاب ما ينطوى عليه من فرص يمكن البناء عليها، وما يثيره فى الوقت نفسه من تحديات قد تعرقل مسار التسوية أو تؤدى إلى نتائج عكسية إن لم تُدر بعناية سياسية ودبلوماسية دقيقة.
القراءة الأولية للنص تكشف أنه ليس قرارًا تقنيًا أو إنسانيًا فحسب، بل يحمل ملامح إطار سياسى يحاول الربط بين وقف دائم للأعمال القتالية، وترتيبات انتقالية لإدارة القطاع، وخطوات تدريجية نحو انسحاب عسكرى إسرائيلى، وآليات لمعالجة مسألة السلاح خارج سيطرة السلطة الشرعية، مع إشارة مهمة ــ وإن كانت بصياغة وصفية ــ إلى حق الفلسطينيين فى دولة مستقلة فى نهاية المطاف.
هذه الإشارة، رغم محدوديتها، تمنح القرار بعدًا استراتيجيًا يتجاوز اللحظة الراهنة، وتستدعى من الفاعلين الإقليميين، وفى مقدمتهم مصر، دورًا نشطًا فى تحويلها إلى مسار سياسى قابل للتنفيذ لا يذوب فى التفاصيل الأمنية والإدارية والخدمية.
النص يرحّب بالخطة الشاملة المرفقة بالقرار (خطة ترامب للسلام واتفاق شرم الشيخ) ويعاملها كخارطة طريق ملزِمة، تنقل الوضع فى غزة من حالة الاحتراب المتواصل والفوضى الإنسانية إلى مرحلة انتقالية تتولاها قوة دولية مؤقتة للتثبيت ومجلس سلام أو هيئة إشراف متعددة الأطراف.
وهذه المرحلة الانتقالية، كما يظهر فى النص، ليست غاية فى حد ذاتها، بل قناة تنظيمية لإعادة الإعمار، تأمين الخدمات الحيوية، ضمان تدفق المساعدات، إدارة المعابر، ومواكبة الإجراءات الأمنية اللازمة للحد من عودة العنف. غير أن خطورة هذه المرحلة تكمن فى أنها يمكن أن تتحول بسهولة من انتقالية محدودة زمنيًا إلى صيغة وصاية طويلة الأمد، إذا لم تُصمَّم آلياتها ومكوناتها بما يضمن مشاركة فلسطينية جوهرية فى الإدارة اليومية، ويضع سقفًا زمنيًا لكل خطوة انتقالية بما فيها الانسحاب العسكرى الإسرائيلى دون تقسيم القطاع ومعالجة مسألة سلاح حماس والفصائل الفلسطينية، ويربط كل تمديد اضطرارى ليس فقط بطلب إسرائيل أو قرار الولايات المتحدة الأمريكية، بل أيضا بموافقة الأطراف الفلسطينية والمحيط الإقليمى.
من هنا تأتى أهمية الدور المصرى. فمصر ليست طرفًا مجاورًا فحسب، بل دولة مركزية فى المعادلة الإقليمية تملك القدرة والخبرة وعمق العلاقات اللازمة لضمان أن تكون العملية الانتقالية فى غزة جزءًا من مشروع تمكين الفلسطينيين لا تهميشهم، ومن مسار يفضى إلى تسوية دائمة لا إلى وصاية دولية أو إدارة دولية مفتوحة. ومصر، كما أثبتت السنوات الماضية، ترى فى استقرار غزة واستعادة الفلسطينيين لحقوقهم السياسية والأمنية جزءًا من أمنها القومى، وشرطًا لازمًا لمنع تفكك الساحة الفلسطينية أو إعادة إنتاج الانقسام فى صور أكثر تعقيدًا.
• • •
القرار يقدّم مجموعة من الفرص يمكن البناء عليها إذا ما أحسنت مصر وأحسن العرب والفلسطينيون استثمارها. أبرز هذه الفرص أن هناك للمرة الأولى إطارًا دوليًا واضحًا لإعادة الإعمار، يكفل تدفق الموارد وفق أولويات واضحة وتحت رقابة دولية تحُد من الفساد وتمنع الاستخدام السياسى للمساعدات وتحول دون مواصلة إسرائيل التوظيف الإجرامى للتجويع كسلاح. كما يوفّر القرار آلية لربط الانسحاب الإسرائيلى بخطوات أمنية قابلة للقياس، وهو تطور مهم لأنه يخرج عملية الانسحاب من دائرة المساومات التكتيكية إلى مسار مؤسسى يخضع للتقييم الدورى ويتيح للفلسطينيين وللعرب والمجتمع الدولى الضغط باتجاه تنفيذ الالتزامات الإسرائيلية مثلما سيتيح مراقبة مسألة السلاح فى غزة.
ويفتح القرار كذلك نافذة سياسية لإعادة بناء مؤسسات فلسطينية مدنية وأمنية، عبر صيغة تدريجية تسمح بإدارة فلسطينية مباشرة للشئون الأمنية والإدارية والخدمية مع إشراف دولى محدود ومؤقت، ما يضمن أن تكون المؤسسات الفلسطينية طرفاً فاعلاً لا مجرد متلقٍّ للأوامر. ثم إن إشارة القرار إلى الدولة الفلسطينية، رغم أنها غير مُرفقة بجدول زمنى، تمنح شرعية إضافية للمطالب الفلسطينية وتستعيد زخم السلسلة المؤخرة من الاعتراف بالدولة الفلسطينية وتعيد التوازن إلى خطاب مجلس الأمن بعد سنوات طويلة من القرارات التى ركزت على الأمن دون السياسة وتجاهلت حق تقرير المصير للشعب الفلسطينى.
• • •
فى المقابل، يحمل القرار تحديات كبيرة يجب التعامل معها بجدية. أخطر هذه التحديات هو احتمال أن تُفسَّر الإدارة الدولية كوصاية جديدة على القطاع، الأمر الذى سيضعف شرعية المرحلة الانتقالية ويخلق مقاومة شعبية وسياسية واسعة. ثم إن معالجة مسألة سلاح حماس والفصائل الفلسطينية ليست مهمة تقنية يمكن إنجازها بقرارات فوقية، بل عملية سياسية وأمنية معقدة تحتاج إلى رؤية متدرجة، وإلى ضمانات مقبولة فلسطينيًا، وإلى تحفيزات اقتصادية وسياسية تعطى معنى حقيقيًا للانتقال من إدارة الفصائل إلى إدارة مؤسسات السلطة، ومن المقاومة المسلحة إلى المقاومة السلمية عبر أدوات التفاوض.
هناك أيضًا معضلة تشكيل القوة الدولية ذاتها، إذ إن العديد من الدول تتردد فى إرسال قوات برية إلى بيئة شديدة الحساسية، ما قد يؤدى إلى قوة غير كافية أو غير قادرة على تنفيذ المهام الموكلة إليها. وإضافة إلى ذلك، فإن الانقسام الدولى الظاهر فى امتناع بعض القوى الكبرى عن التصويت قد يقوّض الإجماع اللازم لإنجاح عملية الانتقال.
أخيرًا، هناك خطر أن تتباطأ عملية بناء المؤسسات الفلسطينية بما يحوّل التفويض الدولى المؤقت إلى صيغة دائمة بحكم الأمر الواقع.
• • •
هنا تتضح أهمية الدور المصرى فى الحد من هذه المخاطر. أولاً، ينبغى لمصر أن تعمل على ضمان مشاركة عربية رسمية فى إدارة المرحلة الانتقالية من خلال تمثيل عربى واضح فى الهيئات المشرفة، بما يمنع احتكار القوى الدولية لقرارات حساسة تتعلق بمستقبل القطاع.
ثانياً، يمكن لمصر أن تقود برنامجًا واسعًا لبناء القدرات الفلسطينية فى المجالات الأمنية والإدارية والخدمية، بحيث تتمكن الكوادر الفلسطينية من إدارة شئونها بفاعلية منذ الأسابيع الأولى للمرحلة الانتقالية، وبما يضمن انتقالاً سريعًا من الإدارة الدولية إلى إدارة فلسطينية كاملة.
ثالثًا، على مصر أن تدفع نحو وضع سقف زمنى واضح للتفويض الدولى، يكون قابلاً للتمديد فقط بموافقة الأطراف الفلسطينية وبتقييم إقليمى ودولى محايد، وذلك لمنع ترسخ نموذج إدارة خارجية طويلة الأمد.
رابعًا، يمكن لمصر أن تلعب دور الوسيط الضامن فى الموازنات المعقدة بين الانسحاب الإسرائيلى التدريجى وآليات نزع سلاح حماس والفصائل، بحيث تكون كل خطوة منسقة ومراقبة وتُقابَل بحوافز ملموسة للفلسطينيين والمجتمع المحلى.
خامسًا، على مصر أن تبادر إلى تفعيل مسار سياسى موازٍ للترتيبات الأمنية والإدارية، يُذكّر المجتمع الدولى بأن الهدف النهائى ليس إدارة غزة، بل تحقيق تسوية عادلة وشاملة تضمن قيام دولة فلسطينية مستقلة وقابلة للحياة فى الضفة الغربية وغزة والقدس الشرقية.
معالجة مسألة السلاح، تحديدًا، تحتاج إلى مقاربة متدرجة لا تقوم على الإكراه وحده، بل على الجمع بين الإجراءات الأمنية الحاسمة، والعروض السياسية الواقعية، والحوافز الاقتصادية المباشرة. يمكن البدء بمراحل احتواء أولية تضمن وقف الإنتاج والتهريب وتمنع استخدام السلاح الثقيل، ثم الانتقال إلى ترتيبات تخزين السلاح تحت رقابة دولية وعربية وفلسطينية مشتركة، مع فتح مسار للتسويات السياسية والمجتمعية التى تسمح بإدماج العناصر المسلحة فى أجهزة أمنية أو خدمية خاضعة لسيطرة السلطة الفلسطينية. وكل ذلك يجب أن يجرى فى إطار يضمن عدم ملء الفراغ الأمنى بحالة فوضى أو جماعات جديدة، وهو ما يجعل الدور المصرى، بحكم الخبرة والثقة التى تحظى بها القاهرة لدى الأطراف المختلفة، محوريًا فى ضمان التدرج والاتساق.
وفى سياق موازٍ، يجب على مصر والعرب العمل على حماية الشرعية الفلسطينية من أى تآكل محتمل خلال المرحلة الانتقالية. ذلك يعنى أن تكون المؤسسات الفلسطينية ــ سواء تم تحديثها أو توسيع تمثيلها ــ شريكًا أصيلاً فى صنع القرار، وأن تكون عودة السلطة الفلسطينية أو أى هيئة فلسطينية جامعة عودة سياسية حقيقية، لا مجرد غطاء شكلى للإدارة الدولية. كما ينبغى أن تعمل مصر على تأمين دعم دولى لإجراء إصلاحات فلسطينية داخلية بالتزامن مع تقدم المسار السياسى، بحيث تُبنى الثقة بين الشعب الفلسطينى ومؤسساته الجديدة أو المعاد تأهيلها.
قرار مجلس الأمن رقم ٢٨٠٣، إذًا، ليس مجرد وثيقة أممية ملزمة، بل منعطف سياسى يمكن أن يُفتح منه طريقان متعاكسان: طريق يقود إلى تسوية طويلة الأمد تُنهى الحرب وتعيد بناء غزة وتضع الأساس لقيام دولة فلسطينية مستقلة، وطريق آخر ينتهى إلى إدارة انتقالية دائمة تُفقد الفلسطينيين حقهم فى تقرير مصيرهم، وتُغرق القطاع فى صراع بين سلطات متوازية ومعايير أمنية متضاربة. دور مصر سيكون عاملاً حاسمًا فى ترجيح الطريق الأول، بما تمتلكه من شبكة علاقات عربية ودولية، ومن مكانة جغرافية وسياسية، ومن خبرة متراكمة فى إدارة الملفات المعقدة بين الأمن والسياسة.
• • •
المطلوب اليوم هو استثمار هذا الدور فى بناء عملية انتقالية واقعية توفر الأمن وتمنع الفوضى، وتعيد للفلسطينيين القدرة على إدارة شئونهم بأنفسهم، وتضع تسوية الدولتين على مسار سياسى واضح.
بهذه المقاربة فقط يمكن أن يتحول القرار رقم ٢٨٠٣ من نص دولى جيد الصياغة إلى خطوة أولى على الطريق نحو سلام عادل وشامل يحفظ حقوق الشعب الفلسطينى ويمكنه من تقرير المصير ويضمن استقرار المنطقة بأسرها.


أستاذ العلوم السياسية ومدير برنامج الشرق الأوسط فى مؤسسة كارنيجى للسلام الدولى

مقالات اليوم

قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك

بوابة الشروق 2025 - جميع الحقوق محفوظة