البحث عن قصر العينى.. البحث عن مصر
الأربعاء 17 سبتمبر 2025 - 8:04 م
هناك فى تاريخ أى مؤسسة سنوات فاصلة فى تاريخها، فبدءًا من عام 1827 وهو عام تأسيس القصر العينى، ليأتى على باشا إبراهيم بعد مرور مائة عام فى عام 1928 ليقفز بقصر العينى قفزة كبيرة جعلته يضاهى كليات الطب فى الدول الأوروبية، فقد كان أمله حينما ينظر من نافذة قصر العينى آنذاك الحصول على الأرض المقابلة له فى المنيل وهى أرض ورثها الملك فؤاد عن والده الخديو إسماعيل، وكان ينوى بناء قصر بها لولى العهد الأمير فاروق، لكن استطاع على باشا إبراهيم بفضل نواياه الحسنة ومساعيه الدائمة، أن يحصل على موافقة الملك فؤاد على تخصيص تلك الأرض لبناء مستشفى جديد وعصرى، فقد كان الترتيب القدرى لله سبحانه وتعالى، حيث مرض الملك فؤاد واستدعى الدكتور على إبراهيم لعلاجه، فاستطاع بلباقته وذكائه أن يقنع الملك، وتم وضع حجر الأساس فى عام 1928، لكن واجهته عقبة الميزاينة اللازمة للبناء التى تبلغ مليون جنيه، مع حكومة إسماعيل صدقى التى تعانى من أزمات مالية، الذى مرض فجأة، فعالجه على باشا إبراهيم وطلب أجره مليون جنيه لبناء وتجهيز المستشفى الجديد، فنال ما أراد من رئيس وزراء صعب المراس، وسهر الأيام الدكتور على إبراهيم إلى أن افتتح المبنى فى عام 1936، وكان يعالج المصريين مجانًا دون أن يدفعوا أى شىء، وكانت هذه أمنيته التى حققها، فقد كانت توازى مستشفى سانت توماس فى لندن، فقد ضمت 1300 سرير وكانت من أكبر مستشفيات العالم فى عصرها، وتردد على العيادة الخارجية الآلاف.
إن كل ما سبق يقودنى إلى تراجع دور قصر العينى فى علاج الفقراء مجانًا بصورة فعلية وليس عن طريق دفع أى مبلغ قليل كان أو كثير، نعم لدى قصر العينى عجزًا 500 مليون جنيه، لكن القفزة التى يجب أن نعمل عليها ليست المبانى، بل ترتيب مؤسسة وقفية تدر أرباحًا لهذه المؤسسة تكفيها وتغنيها، لأن قصر العينى إذا ذهب هذا المذهب، رشد من التكاليف العالية لعلاج المرضى فى مصر، وعلى إدارة قصر العينى أن تراجع إعلانات قصر العينى فى التليفزيون والصحف التى كانت تدعو المصريين إلى التبرع لإنشاء المستشفى الفرنساوى مكان قصر العينى القديم، ثم لما افتتح صار مستشفى رأسماليًا يعالج بمقابل، فحرم فقراء المصريين وحتى الطبقة المتوسطة من دخوله.
يجب أيضًا أن نعترف بأن قصر العينى تحت ضغط لا يعقل من الفقراء والطبقة المتوسطة، فهو يعالج 2.5 مليون مريض سنويًا، وهذا رقم فوق الطاقة على كل المستويات، ولا يتيح مجالًا للتنفس للأطباء والعاملين فى المستشفى، ولن يكون تركيزه على الأمراض المستعصية والحالات الصعبة والنادرة، ولذا فهناك طاقات مستنزفة بلا داعى داخل أكبر بيت خبرة طبى فى مصر، ولن يستقيم هذا الأمر إلا بإصلاح منظومة الصحة بمصر، فاستمرار انهيار أداء المستشفيات الحكومية وأدائها بسبب قصور موازانتها وضعف مرتبات العاملين فيها بمن فيهم الأطباء هو السبب فى هذه الضغوط على قصر العينى، والذى يجب أن يحدد الأمراض والحالات التى يعالجها.
على الرغم من أن البحث العلمى فى قصر العينى أدى لبعض الإنجازات، لكنها إنجازات دون ما نأمل، وقبل عتاب هذه المؤسسة العلمية، علينا أن نذكر أنها قدمت لنا أول جهاز تنفس صناعى للحالات الحرجة مصرى بالكامل، وهو ما يوفر آلاف الدولارات فى حال تصنيعه وتسويقه، لكن هذا إلى جانب نجاح فريق من أساتذة مستشفى الأطفال (أبوالريش اليابانى) فى ابتكار تقنية للكشف المبكر عن مرض تصلب الشرايين، ومما يحبط العاملين فى هذه المشاريع البحثية هو عدم نيلهم التقدير الكافى، فالإعلام المصرى لم يقابل هذين الإنجازين فلم ينشرا فى الصفحات الأولى من الصحف ولم يتصدرا نشرات الأخبار، بل من الفرق المشاركة فى هذين المشروعين لا يعرفهما الرأى العام، وهذا نتيجة أن العلم ليس هدفا للنمو والارتقاء بمصر، مع غياب عيد العلم، فهؤلاء ليسوا أيضًا فنانين ولا لاعبى كرة قدم، هؤلاء علماء فى محراب العلم، حق لنا أن نعتذر لهم، وأن نعلن إسهاماتهم، يستحقون أن نفرد لهم ونتحدث عنهم باستفاضة لكى يكونوا قدوة للأجيال الصاعدة.
وهذا يقودنا إلى أن البحث العلمى فى قصر العينى دون ما نأمل ونطمح، بل دون ما هو مطلوب، فليس المطلوب هو فقط أن ننجح فى تقليد الغير بأن نقلد جهازه أو طريقة فى العلاج، بل أن نكون سباقين، كما كنا منذ أمد غير بعيد، وعندما كنا سباقين، كان طالب الطب فى مصر لا تعادل شهادته حين يسافر للخارج، فالكل فى العالم كان يحترم العلم والتعليم فى قصر العينى، وهذا دال على تراجع مكانة قصر العينى دوليًا، وهذا دليل على مكانة تراجعت لا مراء ولا نقاش فيه.
إن قصر العينى لا بد أن يعلن لنا فى احتفاله بمائتى عام برامجه البحثية فى كل أقسامه وغاية كل برنامج، بل يجب أن يعمل جميع علمائه فى عدد من البرامج، كما كان علماؤه قديمًا، فى البداية ترجموا، ثم تخصصوا ثم نافسوا حتى صار يُشار بالبنان فى العالم إلى تخصصات معينة تفوق فيها أطباؤه كالجراحة وطب المناطق الحارة وغيرها، فأتى الطلاب من أوروبا ومن جميع أنحاء العالم ليتعلموا به.
إن دخول الروبوتات غرف العلمليات والذكاء الاصطناعى ودوره فى التشخيص والعلاج، والطب الرقمى وغيره، كل هذا سيغير شكل الطب فى السنوات المقبلة، لذا فإعداد طبيب المستقبل لا يتطلب أن نستنزفه إلى درجة الوفاة تحت الإجهاد، وهو ما حدث لعدد من شباب الأطباء فى كليات الطب فى مصر ليس فى قصر العينى فقط (سلمى حبيش)، لكن فى العديد من المستشفيات الجامعية، فكانت النتيجة هو الاستقالات والهجرة، وهذا ما يجب التعامل معه بجدية.
إن النقلة والقفزة المرجوه لقصر العينى ليست فى المبانى، بقدر ما هى فى العلاقة بين البرمجيات (الطب الرقمى)، والتى تتابع المريض، وتستدعيه إذ كانت حالته تتطلب التدخل الفورى، وتتبع من لديهم أمراض وراثية وتتدخل فى حالة الظهور المبكر للمرض، والتدخل عبر الشفرات الجينية لتعديل الجين لتفادى إجراء عمليات جراحية أو وفيات فى المستقبل، وكذلك التدخل عن بعد لعلاج مريض وفق برتوكول محدد، فالكثير من الحالات مستقبلًا لن تتطلب الذهاب لعيادات الطبيب، فالمفروض أن كل مصرى منذ ولادته سيكون له ملف طبى رقمى يجرى متابعته عن بعد وتوقع حالته المرضية عن طريق التتبع الرقمى.
هذا كله يقودنى إلى أن تدريس قصة الطب فى مصر عام 2027 وكفاح المصريين خاصة الأزهريين الذين كانوا نواة الأطباء المعاصرين، ونماذج المكافحين من ريف مصر والذين صاروا عظماء الطب فى العالم كالدكتور على إبراهيم والدكتور نجيب محفوظ والدكتور محمد عبدالخالق وغيرهم، يجب أن ندرس هذا لكل طلاب المدارس فى مصر كجزء من الاحتفال بقرنين على الطب فى مصر، حتى نبعث الأمل لدى الأجيال الجديدة المحبطة فى وطن يحبط كل موهوب أو متفوق، يجب أن يحرص قصر العينى على مجانية الدراسة به، ولا ينساق إلى رسملة تدريس الطب، لأنه بمشاركته فى هذا يحبط المتفوق عن جدارة، ويعطى من لا يستحق لأن أباه معه المال، يجب أن يتمسك قصر العينى بتصفية الملتحقين به فرسوب الفشلة من أول عام به كاشف للجدية التى عرف بها، فالذى غش فى الثانوية العامة فى مصر يجب ألا يكون له مكان فى هذه الكلية، فضلًا عن كون يأخذ مكانًا مصريًا آخر حرمه من حقه فى الالتحاق بهذه الكلية.
أخيرًا يجب عند الاحتفال بقصر العينى ألا ينسى تكريم الملك فؤاد الذى تنازل طواعية عن أرض مستشفى قصر العينى الجديد عن طيب خاطر من أجل أن يعالج كل مصرى وأن يتقدم الطب فى مصر، لم يفكر كم تساوى هذه الأرض الثمينة حينئذ بل فكر كيف سيعطى بلده. كما يجب تجديد متحف قصر العينى بصورة أفضل مما هو عليه، وأن ينقل إلى بناية يدخل لها من الشارع مباشرة، لأن هذا سيسهل للجمهور التعرف على عراقة هذه المؤسسة التى يعتز بها كل مصرى.



مقالات اليوم
قد يعجبك أيضا