نشر مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة للكاتب محمود قاسم، تناول فيه دخول العلاقات بين اليابان والصين مرحلة غير مسبوقة من التوتر والتصعيد نتيجة تحوّل جوهرى فى الموقف اليابانى الرسمى تجاه تايوان، إذ تكمن الأزمة فى تجاوز اليابان لمبدأ «الغموض الاستراتيجى» بخصوص تايوان، واعتبار غزوها تهديدًا وجوديًا لأمن اليابان، وهو ما دفع الصين إلى الرد بتصعيد عسكرى واقتصادى ودبلوماسى.. نعرض من المقال ما يلى:
يكشف التصعيد بين اليابان والصين عن أهمية موقع تايوان ودورها فى رسم خطوط المواجهة المُحتمَلَة فى شرق آسيا، بل والقارة بأكملها، فى ظل تقارير أمريكية تفيد باقتراب ضم الصين تايوان؛ فعلى سبيل المثال، أعلن وزير الدفاع الأمريكى، بيت هيجسيث، فى شهر مايو الماضى، أن الصين تخطط لغزو تايوان فى عام 2027، وحذَّر من أن أى محاولة للغزو قد تؤدى إلى عواقب مدمرة على منطقة المحيطين الهندى والهادئ والعالم.
فى هذا السياق، تُعد تصريحات «تاكايتشى» تحولًا جوهريًا فى موقف اليابان المُعلَن تجاه تايوان، رغم أنها لم تكن صادمة بالكامل للصين؛ إذ سبق لنائب رئيس الوزراء الأسبق، تارو آسو، أن أكد فى عام 2021 أن أى هجوم على تايوان يُشكِّل تهديدًا وجوديًا لأمن اليابان.
ومع ذلك، يكمن عنصر المفاجأة فى صدور هذا الموقف الصريح عن رئيسة الوزراء نفسها، بعد أن تجنَّب قادة اليابان السابقون الإفصاح عن الكيفية التى ستتعامل بها بلادهم مع سيناريو غزو تايوان المُتوقَّع. وحتى رئيس الوزراء الراحل، شينزو آبى، الذى يُعد الأب الروحى لـ«تاكايتشى» وصاحب التوجه الأمنى الأكثر تشددًا، لم يذهب يومًا إلى القول بأن غزو تايوان أو محاصرتها يُبرِّر ردًا عسكريًا يابانيًا.
وبذلك يكشف موقف «تاكايتشى» بشأن تايوان عن تجاوُز اليابان مبدأ الغموض الاستراتيجى الذى سيطر على الموقف الرسمى لعقود. كما أن وضع غزو تايوان كتهديد وجودى لليابان يعنى الانتقال إلى مربع جديد فى إدارة العلاقات مع الصين بهذا الخصوص، والتخلى عن اللغة الدبلوماسية.
هذا الموقف الجديد بشأن تايوان لا ينفصل عن صعود الخطاب القومى فى السياسة اليابانية؛ إذ يُمثِّل صعود «تاكايتشى» لرئاسة الوزراء، كأول إمراة فى تاريخ اليابان الحديث، صعودًا للتيار القومى الأكثر تشددًا، بما يحمله من توجهات نحو إعادة صياغة السياسة الخارجية اليابانية، ورغبته فى استعادة مكانة اليابان التاريخية، ودعوته لإعادة النظر فى الدستور السلمى لليابان، والتوجه نحو تعزيز القدرات الدفاعية والعسكرية.
وبالطبع، يتناسب موقف «تاكايتشى» الأخير مع توجهاتها المحافظة ومواقفها المتشددة تجاه الصين، فقد سبق وأن زارت تايوان أكثر من مرة بصفتها عضوًا فى مجلس النواب. وفى شهر إبريل 2025، وخلال ندوة فى تايبيه، دعت "تاكايتشي" إلى ضرورة استثمار اليابان وتايوان فى قدراتهما الدفاعية، بل ذهبت إلى أبعد من ذلك، حينما اقترحت تشكيل تحالف شِبْه أمنى بين اليابان وتايوان وأستراليا والهند والفلبين.
بناءً على ما سبق من موقف يابانى مُستجَّد، لم يقتصر موقف الصين على التذكير بالخطوط الحمراء التى لا يجب تجاوزها بشأن تايوان، بل إنها استدعت تلقائيًا الذاكرة التاريخية والموروث العدائى بين الدولتين، قبل وأثناء الحرب العالمية الثانية، والذى لا يزال عاملًا محوريًا فى الموقف الرسمى والشعبى الصينى تجاه اليابان.
• • •
تبلورت مجموعة من المواقف والتحركات من قِبَل اليابان والصين تدفع باتجاه مزيد من التصعيد وإضفاء طابع "العسكرة" على التفاعلات بينهما خلال الفترة القادمة، حيث يعمل كل طرف على استعراض قوته ومحاولة رسم خطوط حمراء للطرف الآخر.
على الجانب الصينى، حذرت وزارة الدفاع، فى 14 نوفمبر، اليابان من هزيمة عسكرية ساحقة إذا استخدمت القوة للتدخل فى تايوان، وأعلن خفر السواحل الصينى، فى 16 نوفمبر، نَشْر تشكيل من سفنه بالقرب من مياه جزر سينكاكو المُتنازَع عليها مع اليابان. كما بدأت الصين مناورات عسكرية بالذخيرة الحية بالقرب من اليابان خلال الفترة من 17 إلى 25 نوفمبر. ورغم أن هذه المناورات متكررة ومعتادة من الصين، فإن توقيتها لا يخلو من رسائل مباشرة لليابان.
فى المقابل، قامت اليابان، فى 23 نوفمبر، بنشر صواريخ أرض جو متوسطة المدى على جزيرة يوناجونى، والتى تبعد 110 كيلومترات عن تايوان، وهو ما يُمثِّل تحولًا استراتيجيًا فى الفكر اليابانى، حيث ستصبح الجزيرة حائط الصد الأول وخط دفاعها ضد أى محاولات عسكرية من جانب الصين، وهى الخطوة التى أثارت رد فعل غاضب من الصين، التى اعتبرت أن هذه التحركات قد تؤدى إلى إشعال مواجهة إقليمية.
وعلى المستوى الاقتصادى، بدأت الصين على الفور فى انتهاج سياسة الضغط والإكراه الاقتصادى تجاه اليابان، فعقب تصريحات «تاكايتشى» مباشرة، عمدت الصين على رفع التكلفة الاقتصادية والدبلوماسية بالنسبة لليابان، فقد فرضت قيودًا على الواردات اليابانية، وأوقفت استيراد المأكولات البحرية اليابانية فى 19 نوفمبر.
كما ألغت الصين حجوزات مواطنيها إلى اليابان، التى تستضيف أكثر من ثمانية ملايين سائح صينى سنويًا؛ وهو ما قد يؤدى لخسارة قطاع السياحة اليابانى حوالى 14 مليار دولار إذا استمر الحظر فى العام المقبل 2026.
ومن المُتوقَّع أن تستمر الصين فى ممارسة الضغوط الاقتصادية خلال الفترة القادمة، وقد يأخذ ذلك أشكالًا تدريجية من حيث الحدة، ومن حيث القطاعات التى يمكن أن تشملها، حيث قد تتجه إلى حظر تصدير المعادن النادرة لليابان على غرار ما حدث فى عام 2010، وهو ما قد يصيب القطاعات الصناعية والتكنولوجية وصناعة السيارات فى اليابان بهزة كبيرة.
وعلى المستوى السياسى، نقلت الصين نزاعها مع اليابان إلى الأمم المتحدة، إذ اتهمت طوكيو بتهديدها بتدخل مسلح فى قضية تايوان، وتعهدت بالدفاع عن نفسها؛ وأعلنت الصين كذلك عن تأجيل اجتماع ثلاثى كان مقررًا لوزراء الثقافة اليابانى والصينى والكورى الجنوبى، ورفضت مقترحًا يابانيًا بعقد قمة بين زعماء الدول الثلاثة فى شهر يناير المقبل.
وتَستهدِف الصين من هذه الضغوط تحقيق هدفين رئيسيين، أولهما إعادة تشكيل المشهد السياسى فى اليابان، وربما دفع رئيسة الوزراء للتراجع عن موقفها أو تقديم اعتذار، إذ تدرك بكين أن ائتلاف رئيسة الوزراء "تاكايتشي" لا يزال هشًا وأنها بحاجة إلى دعم المعارضة اليابانية كشرط رئيسى لاستمرار حكومتها؛ وثانيهما توجيه الصين رسالة للدول الآسيوية الأخرى بأنها لن تكون بمنأى عن الضغوط إذا ما تبنَّت مواقف مماثلة فيما يتعلق بتايوان.
• • •
لم تمنع الإجراءات التصعيدية السابقة الدولتين من الاحتفاظ بقنوات التواصل الدبلوماسية مفتوحة بينهما فى محاولات للتهدئة؛ فعلى سبيل المثال، أجرى "ماساكى كاناي" المسئول الأعلى فى وزارة الخارجية اليابانية لشئون آسيا والمحيط الهادئ، محادثات، يوم 18 نوفمبر، فى الصين، مع نظيره الصينى ليو جين سونج. كما دخل الرئيس الأمريكى "دونالد ترامب" على خط التهدئة، من خلال محادثات هاتفية مع الرئيس الصينى ورئيسة وزراء اليابان.
من ناحية أخرى، تزيد العلاقات الاقتصادية والروابط الاجتماعية بين الدولتين من فرص الابتعاد عن التصعيد للحد الأقصى؛ حيث بلغ حجم التبادل التجارى بينهما نحو 308.3 مليار دولار أمريكى فى عام 2024، وبلغت واردات الصين من اليابان 156.25 مليار دولار أمريكى، فيما بلغت صادرات الصين إلى اليابان 151.988 مليار دولار فى العام نفسه. كما يُوجَد أكثر من 31 ألف كيان تجارى يابانى فى الصين بحسب تقديرات عام 2023.
وفيما يتعلق بالإجراءات العسكرية التى تتخذها الدولتان، فمن غير المُرجَّح مطلقًا أن تتحول لأى نوع من الصدام المباشر، فثمة مجموعة من العوامل تكبح الانفلات العسكرى، من أبرزها إدراك الطرفين للتكلفة الاستراتيجية الباهظة لمثل هذا السيناريو، الذى لن يقتصر تأثيره عليهما فحسب، بل قد يتوسع ليشمل قوى دولية كبرى، وفى مقدمتها الولايات المتحدة.
ومن ثمَّ، يمكن القول إن التفاعلات الصينية اليابانية الراهنة تشير إلى أن حالةً من الجمود المؤقت سوف تكون السيناريو الأرجح فى المدى القريب؛ فلا يُرجَّح أن تحدث انفراجة قريبة، ولا يُرجَّح كذلك أن تحدث مواجهة مفتوحة، فالعلاقة بينها ستكون بعيدة عن الصدام وبعيدة فى الوقت نفسه عن المصالحة، وسوف تحتاج وقتًا أطول للترميم هذه المرة.
وفقًا لذلك، لا يُتوقَّع أن تتراجع رئيسة وزراء اليابان عن موقفها سريعًا، خاصة أن مثل هذه الخطوة قد تؤثر على مصداقيتها الداخلية، فى وقت لا تزال تتمتع فيه بقاعدة شعبية تضمن لها الصمود لفترات أطول ضد الضغوط الصينية. ومن ناحية الصين، فإنها تجيد سياسة النفس الطويل، ويُرجَّح أن تزيد من ضغوطها على اليابان، لكنها تدرك أنه من غير الطبيعى أن يستمر التوتر إلى ما لا نهاية.