المَشْتَى

الجمعة 3 أكتوبر 2025 - 7:05 م

‎‎دار النقاشُ بين عدد من الأصدقاء والصَّديقات حول إمكانات الذِّهاب إلى أحد المَشاتى التى تتمتَّع بجوٍّ مناسب، مع حلول فصل الخريف. فضَّل بعضُهم التوجُّه جنوبًا لمدن الصعيد، بينما أراد آخرون السَّفرَ لإحدى مُحافظات البحر الأحمر؛ لكن الاستطرادَ فى الكلام أوضح أن الفريقين كليهما إنما يُعبِّران عن أمنيات لم يَعد تحقيقها فى المُستطاع ولا عجب؛ فقد تخلَّى كثير الناس عن عاداتهم مع تدهوُر الأوضاع الاقتصادية، واكتفوا من طقوسهم بالكلام والذِّكرى.

• • •

‎تُستخدَم مُفرَدة «المَشتَى» كاسم مكان، وربما تُستَعمَل أيضًا فى إشارةٍ للزَّمان؛ تبعًا للسِّياق الذى تُوضَع فيه. يُقال على سبيلِ المثال إن الغردقة وشرم الشيخ من أجمل مَشاتى مِصر، وإن كيهك وطوبة وأمشير هى شهورَ المَشتى التى يعتمدها التقويمُ القبطيّ. فى العبارة الأولى يُمثِّل المَشتى مكانًا وفى الثانية مِيقاتًا، واللفظ واحدٌ ثابت.

• • •

‎لم تزَل الإسكندرية أحب مَشتى إلى قلبي؛ حتى بعد أن تغيَّر وجهُها فى الآونة الأخيرة. تحوَّلت شطآنها فى كثير المناطق إلى كتل مُتلاحِمة تمنع عن أهلِها وزوَّارها رؤية البحر، وتبدَّلت شوارعها العتيقة وأزقتُها الطيبة لتعكس علاماتِ الحداثة المُنفِّرة، بينما حلَّت مَحلّ الكورنيش الضَّيق القديم حاراتٌ عديدةٌ مُتَّسعة؛ يصادف المارُّ بها حوادثَ سَير شِبه يومية مرعبة، ويُقال أيضًا إن فى الخطة حذفَ الترام الأثريّ مِن على الخارطةِ المُنتهَكة المَغدورة

• • •

‎لا يتأتى تعويضُ الأمكنة ما دُكَّت وأتَت عليها صُروفُ الزمان، والخسائر ما وقعت؛ لا يُمكن استدراكُها ولا التخفيفُ من وطأتها، وإذ أحرَق المغولُ مكتبة بغداد؛ أحد أعظم المكتبات خلال القرن الثالث عشر؛ فإن الكتُبَ والمخطوطاتِ التى أمسَت رمادًا قد تركت جرحًا لا يندمل فى عقل الإنسانية، وإذ هَدمَت حركةُ طالبان تماثيلَ بوذا فى أفغانستان خلال القرن الحادى والعشرين؛ فإرث لن تُتاح استعادتُه بأى وسيلة

• • •

‎يقول السَّاحليون وبعضُ أهل الشام وشمال أفريقيا ما أمطرت السماء: الدنيا بتشتي؛ وكأن القطراتِ المُتساقِطة مُرتبطة بفصْلِ الشتاء دون غيره، وقد اعتاد الصغارُ فيما مضى ترديدَ أغنية تقول كلماتُها: الدنيا بتشتى وهاروح لسِتّى، ويُرجِع بعضُ الباحثين استخدامَنا مفردة «تشتى» إلى نباتِ الشتوة الموسِمى الذى ينمو فى الأشهُر المَطيرة ولا يظهر فى فترات الجفاف.

• • •

‎الشتاءُ فصلٌ قريبٌ إلى أهواءِ الكثيرين؛ بمفرداته الشجية من سُحُبٍ وغَيم ورِياح، وبتفصيلاته الصَّغيرة المُحبَّبة التى تمتدُّ لتشملَ رائحة الأرضِ المُبتلة وأوراق الشَّجر النديَّة. برودته تجلو الرُّوحَ وتُنعِش المشاعرَ وتحفِّز على العَمل، وأفقه رحبٌ مَفتوح؛ لا يشتعل بحرارة قاسية أو بضوءٍ عنيف. الشتاءُ بألوانه الناعمة باعثٌ على التأمُّل فى الحاضر ومُراجعة الماضى؛ وما أحوجَ المَرء لهدنة يستشرِف فيها القادمَ ويعُد العُدَّة للآتى ويِعيد ضَبطَ بوصلته نحو الهدف.

• • •

‎اشتهرت مُحافظتا الأقصر وأسوان بكونهما من أهمِّ المَشاتى على وَجه الأرض؛ ليس بسبب طقسهما الممتع الدافئ وحسب؛ بل كونهما تحتضنان نسبةً هائلةً من أقدم الآثار، ونهرًا من أعظم الأنهار وأغناها. درجنا على التباهى بكليهما؛ ولم نتوان مع هذا عن إساءة التصرُّف تجاههما، سُرِقت آثارنا على مدار الأعوام، أما النهرُ فبات فى خطر داهم. دالت المَكانةُ وتراجعت المَهابة

• • •

‎الطريقُ إلى محافظات البحر الأحمر التى تمثل بدورها مشاتى جاذبة، تبدو مَحفوفةً بسخافات لا تُحتَمل. يحكى المسافرون عن أكمنة يُعامَل فيها الزائر كمشتبه فيه وأحيانًا كمُتهم. فرضُ النظام وحفظ الأمن أغراضٌ لا يمكن التفريط فيها؛ لكن التطبيقَ فنٌ نفتقر إليه أغلب الأحيان، أو ربما لا نجد له ضرورة.

• • •

‎خريفُ العُمر وشتاؤه تعبيران مجازيَّان يرمزان إلى مراحل زمنيَّة مُتقدِّمة من حياة الإنسان؛ يصبح خلالها أكثر حكمةً ونضوجًا. يدرك حقائقَ مُختلفة عما اعتقد سلفًا، ويتمكَّن من مَعرفة الناسِ بصورةٍ أعمقَ وأشمَل؛ لكنه قد يَعجز عن تحقيقِ الاستفادة القصوى بما عرف وأدرك؛ لأسباب تتعلقُ بتراجع قُدرة الجَّسد وكفاءته، فالنشاط يتناقصُ تدريجيًا وقابلية المرءِ لتحمُّل المشاقِّ المادية والنفسية تتضاءل، الرؤية الثاقبة يصحبها عزوفٌ عن توجيه الآخرين، وانكشافُ المَحجوب يرافقه شىءٌ من اللامبالاة والرغبة فى اتخاذ موقع المتفرج، والأهم من هذا وذاك أن المرءَ يزداد قناعة بأن الأمورَ ستمضى كما قُدر لها، وأن مُحاولة اختصار المسافات لن تُجدِى ولن تُثمر. يرى إرهاصات التغيير ويملك اليقين بأنه آت لا محالة؛ إنما فى وقته.

• • •

‎يحلُّ الشتاءُ قريبًا ولم تزل الحربُ دائرةً على أرض فلسطين، ولم يزَل أهلُ غزَّة يقاومون الفناء، ويكابدون معاناةً تتفتت من هولها الجبال.

مقالات اليوم

قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك

بوابة الشروق 2025 - جميع الحقوق محفوظة