عبدالله السناوي يكتب في ذكرى ميلاد الأستاذ الـ95: وصايا «هيكل» في آخر اليوم الطويل - بوابة الشروق
السبت 20 أبريل 2024 4:23 م القاهرة القاهرة 24°

الأكثر قراءة

قد يعجبك أيضا

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عبدالله السناوي يكتب في ذكرى ميلاد الأستاذ الـ95: وصايا «هيكل» في آخر اليوم الطويل


نشر في: السبت 22 سبتمبر 2018 - 11:10 م | آخر تحديث: السبت 22 سبتمبر 2018 - 11:10 م

• مصر لم تعد كما عرفتها.. ولا يمكن لأى بلد أن يعيش على المساعدات
• الحوار مع القوى والشخصيات السياسية ضرورى لأى نظام حتى تنفسح الخيارات أمامه
• التجريف الذى حصل فى مصر والقحط الذى نال من الأفكار والبشر والطموحات أوصلنا بعد سنين طويلة لسؤال الوجود: نكون أو لا نكون
• لا يمكن الاطمئنان على أي مستقبل ما لم تكن هناك رؤية تحكم الخيارات والسياسات وتتسق مع حقائق عصرها واحتياجات مجتمعها
• مبارك كان يتعامل مع الدولة باعتبارها دكانا والإخوان كانوا يخططون لخطفها لكنهم لم يتمكنوا
بعد نشوة الأيام الأولى لـ«يناير» ارتبكت خطى وتصرفات وتزاحمت قوى ومصالح تطلب اختطاف الثورة.
وسط الزحام غابت أية رؤية متماسكة للمستقبل.
لم تكن هناك خطة واضحة للانتقال من عصر إلى آخر.
سادت فوضى واختلطت أوراق وجرت صدامات على طبيعة الدولة حتى وصلنا إلى (٣٠) يونيو.
بتقديره فإن من ضرورات النجاح أن تكون هناك «خريطة مستقبل»، وهو الاسم الذى أطلق على بيان (٣) يوليو (٢٠١٣).
سألته: «هل أنت من كتبت هذا البيان؟».
قال: «لا».
قلت: «لكن الأسلوب أسلوبك، وبعض الصياغات لا يمكن أن تصدر عن أحد آخر غيرك».
قال: «هناك من سجل على ورق بعض ما اقترحت وضمنه البيان».
لم يكن الأسلوب وحده هو ما أشار إلى بصماته.
مشهد (٣) يوليو كله انطوى على إتقان غير معتاد فى الإخراج السياسى المصرى منذ خطاب «السيف والدرع»، الذى كتبه للرئيس «أنور السادات» لإلقائه فى مجلس الشعب يوم (١٦) أكتوبر (١٩٧٣) بينما أصوات المدافع لم تصمت بعد على جبهات القتال.
كما تبدى الإخراج متقنًا وجديدًا عندما وقع فى قصر «الاتحادية» الرئيسان الانتقالى «عدلى منصور» والمنتخب «عبدالفتاح السيسى» على وثيقة نقل السلطة وفق نتائج الاقتراع واحترام الدستور.
لم يكن يتحدث عن أية أدوار قام بها، لا يشير إليها ولا يوحى بها.
كان من رأيه أنه لا قيمة لأى إخراج سياسى، مهما كانت درجة إتقانه، ما لم يستند إلى حقائق يلمسها الرأى العام.
وكان من رأيه أن الأهم من وثيقة نقل السلطة أن يُعلن كشف بالأوضاع التى تسلم بها الرئيس الجديد سلطاته حتى يمكن الحساب بمعرفة والنقد عن علم.
وكان من رأيه ـ قبل نقل السلطة ـ أن المستشار «عدلى منصور» نضج سياسيًا بالتجربة رغم قصر مدتها.
«عندما رأيته لأول مرة فى قصر الاتحادية وجدته حائرًا أمام مهام داهمته بغير تهيؤ ولا سابق خبرة، غير أنه بعد وقت تبدت قدرات لم يكن يعرفها فى نفسه».
أعلن أكثر من مرة أن التجربة أفادته بأكثر من أى توقع، وفى هذا دليل عملى على سخف القول «أنه ليست هناك بدائل».
رغم تداخله فى المشهد الجديد، وصوته مسموع فى «الاتحادية»، لم يكف عن النقد والتحذير من مواطن الخلل الفادحة، فالمستقبل تصنعه الرؤى والأفكار والسياسات قبل المشروعات.
فى أحاديثه المتلفزة دأب على النقد بأمل التصحيح والتصويب.
لكنه بمضى الوقت بدأ يستشعر أن ما يطلبه من تصحيح وتصويب صعب المنال.
كان أخطر ما طرحه من أفكار وتوجهات دعوة الرئيس الجديد أن يثور على نظامه.
سألته: «ما الذى تقصده بالضبط؟».
قال: «لا يمكن لأحد أن يتوقع نجاحًا، وهو يحكم بنظام غيره ويعيد إنتاج سياسات ووسائل ووجوه استهلكت زمنها وصلاحيتها».
كان مثيرًا أن الرجل المعنى مباشرة بما قاله لم يبدِ اعتراضًا، أو تحفظًا على دعوته، بينما اعترضت وتحفظت قوى من داخل الحكم الجديد فـ«لا يعقل أن يطلب من رئيس أن يثور على نظام يقف هو على رأسه».
كان ذلك مؤشرًا على أوضاع صعبة مقبلة تقوض فرص أى انتقال لدولة حديثة تقطع صلتها بالماضى وتؤسس لمستقبل جديد.
«أخشى من تبعات ضيق النظام عن أن ينظر حوله فى الحقائق، أو لا يتسع مجاله للكفاءات فى البلد».
«إذا ضاقت النظم فإنها مقبلة على أزمات بلا حد».
«لا أحد يحكم وحده».
«الأمن ليس بديلًا للسياسة».
«الحوار مع القوى والشخصيات السياسية ضرورى لأى نظام حتى تنفسح الخيارات أمامه» ــ كما قال على مستويات عدة دون أن يصادف تنفيذًا.
لم تكن الأفكار والتصورات التى طرحها بعد (٣٠) يونيو مستحدثة، أو عابرة، فلكل فكرة جذر فى تاريخه، ولكل نقد أساس من خبرته.
..............

فى فبراير (٢٠١٤) جلس أمام الكاميرات لأكثر من ساعتين فى حوار مفتوح مع سبعة من الشخصيات الصحفية والأدبية والسياسية حول سؤال المستقبل.
بدت الأجواء قريبة من تجربة رائدة لحوار تليفزيونى فى ستينيات القرن الماضى بين عميد الأدب العربى الدكتور «طه حسين» وأدباء من تلاميذه على رأسهم «نجيب محفوظ» حول الأدب وقضاياه ومستقبله.
خرق الأستاذ «هيكل» إحدى القواعد الأساسية فى علاقته مع الفضائيات، التى يخرج على شاشاتها، فهو رجل ملتزم بما يتفق عليه، وقد كان اختياره أن يكون حضوره التليفزيونى حصريًا على محطة الـ«cbc»، لكنه لأسباب خاصة لم يكن مستعدًا لمراجعته فيها والمحطة قدرتها، قرر أن يكون هو ضيف أولى حلقات «صالون التحرير» الذى أدرت حواراته على محطة أخرى.
كانت مصر قد انتهت للتو من الاستفتاء الشعبى على الوثيقة الدستورية الجديدة، التى حازت أغلبية كاسحة لا تزوير فيها ونُظر إليها كأهم إنجاز لثورتى «يناير» و«يونيو».
وبدأ الاهتمام العام ينشغل، بعد الاستحقاق الأول فى خريطة المستقبل (الدستور) بالاستحقاق الثانى (الانتخابات الرئاسية).
بنصوصه وتوقيته فإن ما قاله يلخص صلب نظرته لتحولات (٣٠) يونيو، وصف الأزمات الماثلة وحذّر من العواقب التالية.
«البلد الآن قلق على مستقبله، يريد أن يعرف موطأ لأقدامه ويبحث عن أمل، مشاكله تطرح نفسها على الرئاسة المقبلة وسط ألغام كثيرة، فكيف تنظر إلى المستقبل وما ملفاته الملحة؟».
هكذا كان السيناريو المتفق عليه للدخول إلى ملفات الحوار: معضلة الأمن والحرية، أو كيف نحفظ الأمن فى مواجهة العنف المتصاعد دون تغول على الحريات العامة، ومعضلة الاقتصاد المتعثر والعدل الاجتماعى، أو كيف نشجع الاستثمار دون إجحاف بالطبقة الوسطى والفئات الأكثر عوزًا، ومعضلة بناء سياسة خارجية جديدة تنفتح على المراكز الدولية المتعددة فى ظل أوضاع حصار دبلوماسى.
كان من عادته عندما يتأهب لحديث عام أن يرتب أفكاره وأوراقه ووثائقه ويمعن التفكير فى الجديد الذى يمكن أن يقدمه.
رغم توافقه على هذه الأسئلة القلقة إلا أنه رأى أن هناك ما هو أخطر ويستدعى الالتفات إليه والتحذير من مغبته.
«لا يمكن أن نتكلم عن مستقبل وليس أمامنا طريق، فى هذه اللحظة نحن فى حالة تيه بالصحراء».
شبَّه مصر بسيارة كبيرة تتجه إلى المستقبل، دخلت الصحراء وأوغلت فيها حتى تاهت.
«عند اغتيال الرئيس السادات بدأت السيارة الكبيرة فى التلف وفقدت أحد إطاراتها، جاء بعده الرئيس مبارك وتصوّر بخبرته كطيار أن السيارة الكبيرة طائرة، فبدأ إصلاحها على أنها كذلك، لكنه لم ينجح لأنه كان يفعل شيئًا ضد طبيعتها، وظلت السيارة معطلة، والطريق إلى المستقبل معطلا، حتى جاء المجلس العسكرى بعد ٢٥ يناير ٢٠١١ ووقف أمام السيارة ولم يعرف كيفية إصلاحها، ثم جاء الرئيس مرسى فرأى السيارة تعانى من عدة أعطال فاعتبرها «توك توك» وبدأ يقودها على أنها كذلك، وصعد معه فى السيارة الأهل والعشيرة وأقفاص الدجاج لكنها لم تمضِ بهم أيضًا على الطريق، إلى أن وصلنا إلى المرحلة الراهنة التى يقف فيها كل أصحاب السيارة، سيارة الوطن، أمام أعطالها وهى تسير بطريقة خاطئة، فتجد العواجيز مثلى يقولون: يا جماعة ليس بهذه الطريقة، فى حين يواصل الشباب الدفع بالسيارة من الخلف فى مشهد غريب، وأظن أن أول خطوة لا بد أن نفعلها محاولة إيجاد طريقة للوقوف على طريق المستقبل، وقبل ذلك يجب ألا نتحدث أو نسأل عن اتجاه المسيرة».
«نحتاج إلى أن تكون لدينا مركبة إلى المستقبل سمّها الدولة، سمّها المجتمع، أو ما تريده، المشكلة أنه ليس لديك هذه المركبة».
«لأول مرة فى التاريخ المصرى الحديث على الأقل أنت أمام مشكلة أن توجد أو لا توجد».
«انظر إلى خريطة الإقليم.. حيثما نظرت ستجد أن كل ما كان مجالًا مفتوحًا للحركة أصبحت عليه الآن أخطار داهمة».
ثم: «أين الصين والهند وأوروبا وإفريقيا منك؟».
«قل لى كيف أدرت ملف النيل قبل أن تسألنى عن الحرية، يكون للحرية معنى حين تكون قادرًا على مسئوليتها».
«فى ظرف ثلاث أو أربع سنوات إذا لم تجد حلًا حقيقيًا، فأنت أمام حالة جوع مائى، لا تقل لى إن أحدًا يعانى جوعًا مائيًا ولا يجد ما يروى أرضه ولا ما يشربه ثم يكلمنى عن حاجة ثانية».
«تركنا ملف المياه لخبراء وزارة الرى ووزراء الرى وهذا موضوع كان يجب أن يعالج على مستوى السياسة فى إطار إفريقى حقيقى وأنت ليس لديك هذه الأطر، أنت أمام مشاكل وجودية عليك أن تحلها.. لو بدأ سد إثيوبيا يحجز المياه وسيستغرق ٧ سنوات لكى يُمتلأ فأنت لديك مشكلة حقيقية».
«القضية رقم واحد مياه النيل، فهى أخطر مما نتصور، ولا بد من إسنادها إلى قيصر سياسى يتولى معالجتها كما أن أزمة الطاقة تحتاج لـقيصر آخر لحلها».
فيما أمكن التغلب بوقت تالٍ على أزمة الطاقة فإن أزمة المياه تعقدت وأزمة الغذاء التى اعتبرها وجودية تفاقمت.
«أنا لست واقفًا على طريق المستقبل، ضعنى أولًا على هذا الطريق. وإذا لم تجب عن المخاطر الوجودية، التى تهدد هذا البلد فما تطرحه يظل مجرد كلام».
«هل يُعقل أن تدعونى للسفر وليس معنا تذاكر ولا حجز ولا تأشيرة دخول».
«لو عدنا إلى مثل السيارة الخربة، فالكاوتش مفرقع وليس لدينا بنزين ولا زيت، ثم تدعونى للقيادة، كيف وإلى أين سنذهب؟».
«لا يكفى أن تطالب بالحرية والعيش والكرامة، شعارات الثورة وهى صحيحة، دون أن توصف الأوضاع التى أنت فيها كما ينبغى، وكلها لا توصلك للمستقبل… عليك أن تعرف أين أنت وكيف تتحرك ثم متى تبدأ».
«أول ما يتوجب علينا أن نعرف الحقيقة ونواجه تحدياتها ونجد حلولًا للأزمات الوجودية التى تعترضنا».
«من الحقائق أن الدور الإقليمى المصرى، والوجود المصرى نفسه، موضع مساءلة».
و«من الحقائق أن الناس تعبت لأن أساسيات الوجود غائبة والحديث دائر فى التفاصيل والدانتيلا».
لم يكن موافقًا على إدارة السياسة الخارجية من منظور المساعدات ولا مستريحًا لأية تعهدات تأخذ من البلد حقه فى القرار المستقل.
«لا يمكن لأى بلد أن يعيش على المساعدات».
ومن الحقائق أن هناك ثغرة قيم ومشكلة ثقافة.
«مصر لم تعد كما عرفتها، ملامحها تغيرت وسؤال الثقافة حيوى فى اللحظة الراهنة».
«التجريف الذى حصل فى مصر، والقحط الذى نال من الأفكار والبشر والطموحات، أوصلنا بعد سنين طويلة من النهضة، أو اليقظة، لسؤال الوجود، نكون أو لا نكون».
لم يجد سؤاله أية إجابة وانكفأ المثقفون بعد الدور الكبير الذى لعبوه فى التمهيد لـ(٣٠) يونيو بأثر الخيارات التى اتبعت.
فى عمق رؤيته أن الأوضاع، التى تبدت فى مطلع (٢٠١٤)، لا يمكن أن تستمر، معربًا عن خشيته أن نجد أنفسنا على «طريق الندامة» حيث يجب ألا يكون واردًا، لأننا أمام تحدٍ أن نكون أو لا نكون.
ـ «إذا تصور أحد أننا نتكلم عن بطل منقذ فهو واهم، أنت تريد رجلًا قادرًا على اتخاذ قرار مستقبل وحركة نحو المستقبل، عليه أن يدرك أن كل البلد لا بد أن تكون حاضرة ولا يغيب فيها طرف».. و«الرئيس القادم من حقه أن يمنح فرصة يرى فيها الحقيقة ويصارح الناس بها والشعب كله يكون حاضرًا بالوعى لا الانفعال، بالمسئولية لا بالجموح».
ـ «السيسى عنده تأييد شعبى لكن ليس له ظهير سياسى، لا ينوى أن يؤلف حزبًا ولا أتصور ذلك، وفكرة البطل المنقذ شلها من دماغك، أنا عايز رجل يجيء إلى المسئولية وهو متحسب لها وعارف هو يقدر يعمل إيه بالبلد بأفكار كل الناس».
ـ «أريد معه مجلسا لأمناء الدولة والدستور، جبهة وطنية تدرك أن أمامها أربع أو خمس سنوات تصلح السيارة وتضعها على طريق المستقبل، جبهة توجد فيها كل الأحزاب المعترف بها، وكل من يوافق على مجموعة الأفكار الأساسية على أساس الدستور الجديد».
لم يكن تأييده للرئيس القادم شيكًا على بياض، بقدر ما كان أملًا فى الإفلات من مصائر وجودية صعبة يشخصها ويحذر منها.
فى ذلك الحوار الفريد تساءل الروائى الكبير «بهاء طاهر» عما إذا كان ما يقوله نوعًا من العودة إلى التنظيم الواحد، كـ«الاتحاد القومى» و«الاتحاد الاشتراكى».
وكانت إجابته: «هناك فرق بين الجبهة الوطنية والحزب الواحد، أنا مش عايز لا رجل واحد.. ولا حزب واحد أنا عايز كل قوى البلد تكون موجودة بالطواعية والاختيار».
«جبهة مؤتلفة وليست مندمجة، مستقلون لكن لديهم إرادة الاتفاق على الطريق».. فـ«المرحلة المقبلة لا تتحمل ما نحن فيه الآن».
لم يحدث شيء مما اقترحه، رغم أن الرجل المعنى بالكلام شاهد على الهواء مباشرة الحوار كاملًا وناقشه فى بعض جوانبه مستوضحًا.
«أشعر بالظلم الواقع على الأجيال الجديدة، فلا أحد يحاوره، لا فى الحكم ولا من الأحزاب والجماعات والمثقفين، فكل واحد يكلم نفسه».
مرة بعد أخرى عاد إلى ضرورة مصارحة الناس بالحقائق، فهى «تقبل التضحية إذا رأت أملًا وأحست صدقًا».
«إذا توافرت الإرادة دون وجود وسائل لتحقيقها سنصاب بالإحباط».
«مصر تحتاج إلى تجريدة فكرية تخطيطية وليست عسكرية».
هكذا تحدث ملخصًا رؤيته للأزمات والتحديات والمخاطر قبل الانتخابات الرئاسية التى أعقبت (٣٠) يونيو.
..............
..............
فى الأول من أكتوبر بنفس العام (٢٠١٤) نظر إلى سؤال المستقبل من جديد، وهو يستشعر بوقع السنين أن وقت الرحيل اقترب.
كان «الأهرام» قد دعاه إلى احتفال خاص بعيد ميلاده الحادى والتسعين، وكنت مدعوًا إلى الاحتفال ضمن كتاب وأدباء آخرين من داخل المؤسسة العريقة وخارجها.
طالبنى بأن أصحبه فى رحلة الذهاب إلى «الأهرام«، الذى أعاد تأسيسها من جديد وجعل منها قلعة صحفية حديثة ومؤثرة ولها كلمتها المسموعة.
«لا أريد أن أستغرق الطريق فى ذكريات الماضى».
لكن الماضى استغرقه بالكامل، حواسه متنبهة لكل ما يرى، ما الذى تغير على الحوائط ومواضع المكاتب عما كان عليه فى فبراير (١٩٧٤) عندما غادر مكتبه لآخر مرة.
فى ذلك اليوم الخاص امتلكته مشاعر متناقضة، فهو يدرك أنه فى «آخر اليوم الطويل»، كأن حياته يوم واحد طال، ويشعر بالاعتزاز بما أداه من أدوار.
وكان الأكثر إثارة ــ بالحساب الإنسانى ــ أنه دخل لأول مرة بعد أربعين سنة من مغادرته «الأهرام» صالة تحريرها الشهيرة، أدار اجتماعًا رمزيًا لمجلس تحريرها، استمع إلى مديرى التحرير ورؤساء الأقسام وهم يقترحون تغطيات العدد المقبل.
فى ذلك اليوم الخاص جلس على مكتبه الذى كان.
بدت تلك لحظة إنسانية عميقة ومؤثرة استدعت ذكرياتها، فقد جلس على ذات المكتب الرئيسان «جمال عبدالناصر» و«أنور السادات» عندما زارا «الأهرام».
وقد كان لمكتبه قوة هائلة فى التأثير العام أضفت على المؤسسة الصحفية مكانة استثنائية راحت أيامها.
«هذا المكان شهد شبابى كله وولائى له.. الأهرام بيتى والعاملون به هم أهلي».
هكذا لخص باقتضاب مشاعره، لم تستغرقه ذكريات الماضى، ولم يخفِ قلقه على مصر ومستقبلها وهو يكاد يصرح أن حياته كلها عند حافة الغروب.
«لا يمكن الاطمئنان على أى مستقبل ما لم تكن هناك رؤية تحكم الخيارات والسياسات وتتسق مع حقائق عصرها واحتياجات مجتمعها».
غالب الطبائع الاعتيادية فى مثل هذه المناسبات وتجاوز ما هو خاص إلى ما هو عام ونحى ما هو احتفالى ليناقش ما هو مقلق فى أوضاع البلد.
كانت تلك مفاجأة للصحفيين والأدباء والشخصيات العامة، التى شاركت فى الاحتفال بعيد ميلاده ــ قبل الأخير ــ وفى تصورها أنها مناسبة لإشادة مستحقة بالدور الذى لعبه، وبينهم أجيال جديدة تعرف قدره لكنها ربما لم تره من قبل، فقد انتسبت إلى الصحيفة العريقة بعد أن غادرها بعقود.
رغم تأثره الإنسانى فإنه وجد الاحتفاء بعيد ميلاده ذلك العام زائدًا عن الحد فى الصحف المصرية.
اعتبر ذلك رسالة تكريم من المهنة لرجل فى «آخر اليوم الطويل» مترجيًا «أن تطوى هذه الصفحة».
«أريد أن أقول إن هذا البلد يجتاز مرحلة فى منتهى الخطورة، وهو لأول مرة أمام معضلة أن يكون أو لا يكون».
«ثوابت كثيرة الآن موضوع تساؤل».
«العالم يتغير رأسًا على عقب، وشكل ما هو قادم يتغير، والإقليم يتغير.. ونحن لا نبدو قادرين على الملاحقة».
ثم دخل فى صلب ما أراد أن يقترحه على مستمعيه داخل القاعة التى تحمل اسمه.
«أدعو الأهرام إلى الاضطلاع بمسئولية صناعة رؤية للمستقبل، رؤية لمصر، وهو قادر عليها بما يتوافر له من قدرات وإمكانيات فكرية يمكنها أن تستعين بالشخصيات القادرة على استشراف المستقبل».
«إن مؤسسة روكفللر الشهيرة عندما وجدت أن الولايات المتحدة فى حاجة إلى رؤية جديدة وتصورات أعمق فى كيفية التعامل مع قضايا المستقبل قامت برعاية مجموعة العقول القادرة على تحديد شكل المستقبل وانتهت إلى رؤية عرضت على صانع القرار والمجتمع، رؤية عملية قابلة للتطبيق وليست مجرد أوراق عمل وتقارير».
«الأولويات غائبة فى مصر».
«لا نعرف كيف نبدأ ولا من أين نبدأ؟».
«ولا نعرف كيف نتعامل مع مشكلة سوريا التى تضيع بينما داعش تتوحش؟».. «ولا من أين نبدأ حل المشكلة الاجتماعية فى مصر؟».
من فوق منصة الاحتفال اعتذر عن ترؤس مجموعة المفكرين والباحثين من أجل رؤية لمصر.
«قد أستطيع مجاراة الأزمنة الجديدة لكننا نحتاج إلى عيون جديدة وأصابع لم تحترق بالتجارب السابقة».
«كلما طالت تجربة الإنسان طالت تحيزاته».
لكنه وعد أن يرسل تصوره لعمل تلك المجموعة من المفكرين والباحثين.
.. وهو ما لم يحدث.
فى وقت سابق كتب مسودة رؤية لطرحها على النقاش العام وصاحب القرار فى الوقت نفسه لم تجد طريقًا لإعلان.
سأل: «ما رأيك فيما سمعت ورأيت؟».
قلت: «الفكرة بديعة لكن لن يحدث شيء، فقيادات المؤسسة غير قادرة على التوافق فيما بينهم لإنجاز ما تطالب به».
..............
..............
فى عيد ميلاده الأخير (٢٠١٥) عاد مجددًا ليعبر عن قلقه البالغ على المستقبل المصرى وسط مجموعة ضيقة من أقرب تلاميذه.
«يجب أن تدرك ماذا يجرى حولك فى العالم، وتعرف موقع أقدامك.. فالعالم تغيرت قواعده، ورصيدك الذى صنعته فى الماضى تآكل، ولم يبقِ منه إلا بعض التعاطف».
و«يجب أن تكتشف العالم وتتعرف على أصدقائك الحاليين والمحتملين».
«جرت فى مصر انتقالات مفاجئة.. يمكن أن تتخبط لفترات طويلة.. الوضع معقد لأن الحقائق تائهة».
«نحن نتحدث عن رجل ــ يقصد الرئيس السيسى ــ مستعد لأن يسمع وينصت ويتفهم، لكن الأزمة غياب منهج للتفكير».
«نحن نعانى من أزمة كفاءة، والعثور على نقطة بداية أمر فى منتهى الصعوبة».
«ماذا نفعل؟»
«نحن أمام أناس تائهة.. العصر يطرح حقائق جديدة ومتغيرات جديدة وخياراتنا كما هى لم تتغير ولا تصلح لمسايرة الحقائق والمتغيرات الجديدة».
«الأزمات تستدعى أفكارًا جديدة، والأفكار الجديدة تخلق تيارًا عامًا يساعد على تحريك وعى الناس».
«المثقفون لعبوا أدوارًا مهمة قبل ثورة يوليو مثل طرح إبراهيم شكرى ومحمد خطاب قضية الإصلاح الزراعى فمهدوا لما حدث».
«البلد للأسف جرى عليه وابور زلط فبططه لكنه لم يفقد الأمل».
«لا تنسوا أن هناك مفكرين ومثقفين يستطيعون مناقشة القضايا الكبرى، وهناك قوى منحازة لقضية العدالة الاجتماعية لكننا نحتاج إلى تنظيم العقل المصري».
«نحتاج إلى عقول ترصد التطورات التى جرت فى الداخل والخارج، حتى نعرف من أين نبدأ».
«أتمنى أن يكون هناك من يخطط ويفكر، لا توجد فكرة مركزية مطروحة، ولا توجد وحدة هدف واضحة، أنت تحاول أن تبنى دولة.. مبارك كان يتعامل مع الدولة باعتبارها دكانًا، والإخوان كانوا يخططون لخطفها لكنهم لم يتمكنوا».
«الدستور لم يطبق ولم تنفذ مواده بعد.. والعجيب أن البعض يطالب بتعديله».
فى نهاية حوار امتد لساعتين قال «هيكل»: «لا تستطيع أن تطلب شعبية جمال عبدالناصر بسياسات اسماعيل صدقى».
الكلام انطوى على انزعاج مزدوج من غياب العدالة الاجتماعية وزيادة الدور الأمنى.
..هكذا تصاعد منسوب قلقه إلى حد أنه حذر فى حواره الأخير على شاشة «cbc» من «الخروج من التاريخ».
فى آخر اليوم الطويل نظر إلى المستقبل وقال كلمته ومشى.



قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك