ما إن تطأها قدما الشخص حتى يشعر بأنه انتقل إلى مدينة أوروبية تقع في شرق القاهرة؛ فالبنايات التي اشتهرت بوجود البواكي، والتي صُممت على الطراز الأوروبي، بالإضافة إلى خطوط سكك حديد الترام التي تقطع ميادين الحي المختلفة، تعد بصمة لهذا الحي، تميّزه عن سائر أحياء القاهرة. إنه حي مصر الجديدة، الذي يحتفل هذا الأسبوع بمرور 120 عامًا على تأسيسه على يد مهندس بلجيكي بدرجة "بارون"، إدوارد لويس جوزيف إمبان.
وهنا تبرز الكثير من الأسئلة: من هو البارون إمبان؟ وكيف كانت مسيرته قبل الاستقرار في مصر؟ ولماذا جاء إلى مصر؟ ولماذا اختار شرق العاصمة بالذات لتشييد مدينته؟ وكيف نجحت المدينة الحديثة في اجتذاب الطبقات الغنية والمتوسطة على حد سواء؟ يجيب التقرير التالي عن هذه الأسئلة.
ولد إدوارد لويس جوزيف إمبان في مدينة بلواي البلجيكية في 20 سبتمبر 1852، لأسرة متواضعة، بينما كانت طموحات الابن غير محدودة.
درس العلوم الهندسية في بلجيكا، وكانت بدايته المهنية كرسام هندسي في شركة للتعدين.
من الوظيفة إلى العمل الحر
أدرك إمبان مبكرًا أن الوظيفة التقليدية لا تناسبه، فاشترى محجر رخام صغيرًا حوّله إلى شركة "الرخام المجهولة"، وفقًا لموقع Foundation Boghossian.
بعد ذلك، أنشأ شركة السكك الحديدية العامة الضيقة في بلجيكا، لاهتمامه الشديد بقطاع النقل العام، ونجحت المؤسسة سريعًا في الاستحواذ على شركة السكك الحديدية الإقليمية بالبلاد.
لم تقتصر نجاحات المهندس البلجيكي في قطاع السكك الحديدية على موطنه الأصلي، بل امتدت خارج بلجيكا، حيث أنشأت شركته خطوط السكك الحديدية في بلدان مثل الصين وتركيا والقوقاز، وطورت سكك حديد هولندا.
مترو باريس يمنحه لقب "بارون"
في عام 1900، فاز إدوارد إمبان بعقد بناء مترو باريس، الذي احتفظت مجموعته بملكيته حتى بعد الحرب العالمية الثانية.
شكلت هذه المحطة علامة فارقة في حياة رجل أعمال السكك الحديدية؛ فقد منحه ملك فرنسا لقب "بارون" تقديرًا لجهوده في إنشاء مترو باريس، وهو اللقب الذي لازمه مدى الحياة، بل وتوارثه أولاده وأحفاده من بعده.
لماذا يستثمر شخص بلجيكي في مصر؟
وفقًا لموقع "طارق والي للعمارة والتراث"، بعد أن نالت بلجيكا استقلالها عن فرنسا عام 1830، اتخذ الملك البلجيكي ليوبولد قرارًا ببناء علاقات دبلوماسية واقتصادية وتجارية مع مصر، التي شهدت آنذاك ازدهارًا للاستثمار الأجنبي، ما أدى إلى نمو الاقتصاد البلجيكي في مصر.
وصل البارون إمبان إلى مصر عام 1904، بهدف تقديم عرض لإنشاء خط سكة حديدية يربط بين مدينتي المنصورة والمطرية (مدينة تقع على شاطئ بحيرة المنزلة – بورسعيد) بمديرية الدقهلية شرق الدلتا.
وعلى الرغم من أن شركته لم تفز بعطاء تنفيذ هذا المشروع، وفازت به شركة إنجليزية، فقد ساهم وجود البارون إمبان في مصر في تشجيع المزيد من المستثمرين البلجيكيين على القدوم إليها.
وبالفعل، شهد عام 1907 تنامي الوجود البلجيكي في مصر، حيث كان هناك 32 شركة بلجيكية أو شركة بلجيكية ـ مصرية.
البحث عن فرصة للاستثمار في مصر
بالرغم من عدم حصوله على امتياز إنشاء خط سكة حديد المنصورة، لم يرحل البارون إمبان عن مصر، بل بحث عن فرصة جديدة للاستثمار في هذه البلاد التي أسرته بعمارتها الفريدة، والتي كانت في ذلك الوقت منطقة جاذبة للاستثمار الأجنبي بشكل كبير.
وبذكاء رجل الأعمال، وطّد إدوارد إمبان علاقته برجال الدولة المصريين في ذلك الوقت، وربطته صداقة برئيس الوزراء المصري من أصل أرمني بوغوص نوبار باشا، الذي سهّل له إقناع الحكومة المصرية بالفوائد التي ستعود على مصر من استثمار البارون فيها.
فكر البارون إمبان وقتها في إنشاء مدينة في الصحراء، على الطراز الأوروبي، منخفضة التكاليف، مع توصيل كافة المرافق إليها، لتشجيع المواطنين على التوافد والسكن بها.
لماذا الاستثمار في الصحراء؟
حكمت جغرافيا مدينة القاهرة اختيار البارون وصديقه بوغوص نوبار عند التفكير في موقع المدينة التي يعتزمان إنشاءها، حيث كانت الصحراء الممتدة تحيط بشمال وجنوب القاهرة، أما في الغرب فكان نهر النيل حاجزًا طبيعيًا، وإلى الشرق امتدت تلال المقطم. وبالتالي، لم يجد البارون وصديقه بدًا من الاستثمار في الصحراء.
وضعت الحكومة المصرية آنذاك تسهيلات للمستثمرين لتشجيعهم على الاستثمار في الصحراء، بمنحهم تنازلات وامتيازات دون مقابل، تعويضًا لارتفاع تكاليف التنمية هناك.
التحول من صحراء المعادي إلى هليوبوليس
قال الصحفي والمؤرخ سمير رأفت إن البارون إمبان وبوغوص نوبار فكرا في بناء مدينتهما الجديدة في موقع المعادي الحالي، ولكن حال دون ذلك فوز اليهودي البريطاني مالك شركة الدلتا للسكك الحديدية -المنافسة للبارون إمبان– بحق امتياز خط سكك حديد باب اللوق-حلوان في سنة 1905، والذي مكنه من تنمية وتطوير حي المعادي. ولهذا، تحوّل نظر البارون إلى منطقة هليوبوليس وبدأ في اتخاذ خطوات لبدء الاستثمار بها فعليًا.
البارون يقنع الحكومة بإنشاء مصر الجديدة
تردد المسؤولون الحكوميون في مصر والنخب من رجال الأعمال في فكرة إنشاء مدينة صحراوية جديدة باسم "مصر الجديدة"، لوجود تحديات ومخاطر تحيط بالمشروع، لكن البارون إمبان كان رجل مفاوضات من طراز رفيع؛ فقد أقنع الحكومة المصرية بمنحه تسهيلات لإنشاء مشروعه مقابل توفير سكن لموظفيها، والحصول على 10٪ من مبيعات الشركة في المدينة الجديدة.
وفي سنة 1905، وُقِّع اتفاق بين البارون إمبان والحكومة المصرية، يسمح له بشراء الأراضي الواقعة في مجال المدينة التاريخية التي عُرفت قديمًا باسم "أون – هليوبوليس".
شركة واحة هليوبوليس
أسس البارون وصديقه بوغوص نوبار باشا شركة "واحات هليوبوليس" لبناء مصر الجديدة.
واشترى الاثنان معًا 2500 هكتار (5952 فدانًا) من الصحراء مقابل مبلغ زهيد (جنيه مصري واحد للفدان)، وفازا بامتياز إنشاء خط سكة حديد كهربائي.
البحث عن مصادر للتمويل
تقول الحكمة "إذا أردت شيئًا بقوة، فإن القدر يتآمر معك على تحقيقه"، وهذا ما حدث بالفعل مع البارون إمبان؛ إذ شهدت هذه الحقبة تنافسًا سياسيًا واقتصاديًا بين فرنسا وألمانيا، ما دفع رجال الأعمال الفرنسيين إلى المساهمة مع البارون في تمويل مدينته الجديدة، لمنع مشاركة المساهمين الألمان المحتملة، خوفًا من تنامي النفوذ الألماني في مصر، وهو ما ساعد البارون على تخطي بعض التحديات المالية التي واجهته آنذاك.
مصر الجديدة.. من صحراء قاحلة إلى قطعة من أوروبا
وفقًا لموقع Focus on BELGIUM، خُطِّطت مصر الجديدة كأي مدينة أوروبية؛ حيث لا تزيد البنايات عن 4 طوابق، والشوارع واسعة بعرض 40 مترًا، تتقاطع معها المنازل.
تميّزت بنايات مصر الجديدة بالوحدة اللونية للمساكن، وهو الأصفر الفاتح، الذي كان مدرجًا في اللوائح، ما أدى إلى وجود درجة كبيرة من الوحدة والتناغم الذي يشعر به كل من يزور هذا الحي العريق.
حملت بنايات أرقى أحياء شرق القاهرة طرازًا معماريًا يدمج بين الطراز الأوروبي والعربي الحديث، مع البواكي التي تتميز بها بنايات ميادينه المختلفة، والتي لا نجد مثيلًا لها إلا في منطقة وسط البلد، حيث يتشارك الحيان في العمارة الأوروبية.
مترو "مصر الجديدة" يدب الحياة في الصحراء
سعى البارون إمبان إلى ربط الحي الحديث بشبكة نقل توصله بميادين القاهرة الحيوية، لجذب أكبر عدد من المصريين للسكن في هذه الضاحية الجديدة.
كلف المهندس البلجيكي أندريه برشلونة، الذي كان يعمل آنذاك مع شركة مترو باريس، بإنشاء خط مترو "مصر الجديدة" لربط المدينة الجديدة بالقاهرة.
البارون يعيش في قصره
وفقًا لموقع egy.com، كلّف البارون المهندس المعماري الفرنسي ألكسندر مارسيل ببناء قصر لإقامته، واستوحى تصميمه من معبد "أنجكور وات" في كمبوديا ومعابد "أوديشا" الهندوسية، وصُمم لتكون جميع غرفه وقاعاته معرضة لأشعة الشمس من جميع الاتجاهات، كما بُني على قاعدة خرسانية خاصة تسمح له بالدوران كل ساعة.
يُدفن في كنيسة البازيليك
عشق البارون مصر حيًا وميتًا؛ فبالرغم من وفاته في بلجيكا في 22 يوليو 1929، إلا أنه أوصى بدفنه في مصر، تحت مذبح كنيسة البازيليك، أشهر معالم حي مصر الجديدة.