الوعى الإنسانى من الممكن أن يأخذ أشكالا مختلفة، أو أن تشغله أشياء مختلفة وكثيرة، أن يمتلأ بالكثير من الأفكار والمعتقدات، أن ينظر كل وعى إنسانى للحقيقة التى أمامه بشكل مختلف عن الآخر، وأن ينظر لنفس الأمر بطرق مختلفة جاعلا من الأمر الواحد تافها أو قضية فلسفية تشغل الوعى والتفكير والحياة الخاصة بصاحب هذا الوعى الإنسانى.
هنا فى رواية «شبح عبد الله بن المبارك» للكاتب والروائى ماجد شيحة، والصادرة عن دار الشروق، يأخذ الكاتب من حكاية عبد الله بن المبارك نقطة شديدة الفلسفية لينطلق إلى عالمه الروائى صانعا بناء مغايرا لنصه الأدبى ليركز به على الوعى الإنسانى، هنا الوعى يأخذ الدور المحورى لبنية النص، وما عاداه يصبح على الهامش، البنية الروائية نفسها لنص «شبح عبد الله بن المبارك» فوضوى لأقصى درجة به من الغموض الكثير، وكأنه تجسيد لذلك الوعى الإنسانى الممتلئ بالأمور أو الممتلئ بأمر واحد يتشعب لأمور كثيرة مرتبطة بنفس الفكرة، أو تجسيد لأكثر من وعى واحد، وهذه البنية كأنها صراع بين كل وعى إنسانى وآخر.
سؤال عن حكاية شعبية أسطورية تطلق رواية كاملة متكاملة الأركان، حكاية عبد الله بن المبارك الرجل الصالح الذى شوهد عند بيت الله الحرام يحج مع الحجاج، وهو يقبع فى محله يتاجر ويبيع، تلك الكرامة التى ألصقها الناس به عن تواجده فى مكانين مختلفين متباعدين لأنه رجل صالح ساعد المرأة المحتاجة، تلك الحكاية الشعبية الفلسفية تأخذ دور البطولة لنظنها بطل الرواية، مناقشة فلسفية بين الأستاذ الجامعى المرموق والروائى الذى يسرد لنا الأحداث من وعيه الإنسانى الذى بدوره يصبح هو السارد الفعلى لأحداث حكايتنا الشائكة.
هنا يبدأ التفكير عن ذلك السؤال الدينى المتعلق بسؤال المعجزة، وعن تلك السرديات المتعلقة بتفسير تلك المعجزة، وتلك الأحاديث الفلسفية الوجودية التى نشاهدها فى تلك الليلة التى يذهب فيها الأستاذ ذلك الأستاذ الجامعى إلى صديقه الذى كان يعطيه دروسا فى الفيزياء فى زمن آخر عندما كان راوينا أو ساردنا الذى نحن نقبع فى وعيه طالبا فى الثانوية العامة، تلك الليلة التى ذهب فيها الأستاذ إلى راوينا فى قلب الليل نظن فى تلك الافتتاحية التى تجذبنا بخطافها السردى أن تلك الفلسفة الوجودية التى تطرق باب التابوه الدينى هى الحقيقة، ولكننا نكتشف أن تلك القضية أو الفكرة تتشعب إلى أفكار وقضايا أخرى أكثر شائكية، ونكتشف أن أهمها هى تلك الأمانة التى تركها الأستاذ عند راوينا، وهو ذلك الهاتف الذى يصير مثل كنز، كنز يأتمنه الأستاذ عليه، وتصبح بالنسبة لساردنا قضية حياة أو موت قضية مبدأ لن يتنازل عنه مهما حدث، لهذا وثق الأستاذ فيه لأنه يعلم أنه أعطى الأمانة للخزنة المماثلة للأمانة على نفس مقاسها.
ذلك الهاتف الذى تحيرنا حكايته على ماذا يحتوى لكى يحمل تلك الأهمية للأستاذ، بل وبعد ذلك لزوجة الأستاذ التى يعرفنا عليها الهاتف، حكاية الهاتف الذى تركه الأستاذ فى تلك الليلة التى رحل فيها، راحلا وتاركا زوجته وحدها والهاتف لراوينا، ذلك الهاتف يفتح الباب لنا لنتعرف على تلك العلاقة المتناقضة التى ربطت الأستاذ بزوجته علاقة تشعر فيها بالحب، ولكن تجد التلميحات عن خيانة الأستاذ حتى لو خيانة عابرة، علاقة تلعب فيها الزوجة دورا غريبا عجيبا كأنه دور الغواية بجمالها وأفعالها المريبة وكلامها، ولعبها بالأستاذ وحياته، وتلعب بنفسها هى الأخرى، وبكل من حولها، بل وتتلاعب براوينا، وبنا نحن من نقرأ النص.
إن بنية الشخصيات فى هذه الرواية تعتمد على الفوضوية المطلقة، وعلى الغموض المسيطر على كل أجزاء النص، بل يمكننا قول الهامشية فالشخصيات لا تملك أسماء فقط بل وصفات، ولا تملك أشكالا مفصلة بل مجرد أشياء وصفية عامة، وهذا يأخذنا إلى الزمن نفسه والذى تشذى وأصبح لا وجود له من الأساس فأصبح تمثيلا للوعى الإنسانى أو الذاكرة الإنسانية التى تسرد وتروى فى بالها أشياء عن نفس الأمر متفرقة الترتيب والترابط، وهذا ما نجده فى نصنا فالزمن هنا أشبه بالذى يرجع إلى الوراء ثم يقفز للأمام فى حلقة مرتدة، حتى بنية الأمكنة هى بنية عامة بلا أى تفاصيل محددة فقط قرية، مدينة، مكتبة، دون أيضا تفاصيل وصفية معينة.
إن انتقالنا لفكرة السرد واللغة التى لعب بهما الكاتب كثيرا على مدار النص حتى أربك كل حسابات قارئ نصه، فنراه قد استخدم ذلك الراوى الذى يتشذى بين كونه راويا عليما، وراويا مشاركا، بل ربما راويا متعدد الأصوات فى بعض الأحيان، إن راوينا هنا يفند قصتنا من منظور وعيه الإنسانى المتشابك، فهنا يصبح غير عليم، ولكنه يحاول لعب ذلك الدور الموكل إليه من كونه من يدون هذه الحكاية فينتقل لسلطة الراوى العليم ليحلل الوعى الخاص ببقية شخوص الرواية مثل الأستاذ وزوجته، أما اللغة فقد لعب بها الكاتب وطوعها على طوال النص بطريقة متنوعة ومتدرجة فى الحدة بإضفاء بعض الشاعرية وباستخدم السرد التشبيهى للتأكيد على تشذى الوعى الإنسانى للراوى، والذى جعلنا نشارك معه وعيه، بل وأدخل وعينا إلى نصه.
فى نهاية نصنا نعرف أن الزوجة رمز الغواية هى التى حركت وعى الراوى، ووعينا معها طوال الرواية وحركت الأحداث كما تحب، لتخلق من نفسها رمزا ليس فقط للغواية، بل ورمزا لسلطة الغواية على كل أفراد الرواية، ليس فقط ممن شاركوا فى أحداثها، بل وممن قرأوها أيضا.