جاء قيام المحكمة الجنائية الدولية بإصدار مذكرات اعتقال بحق بنيامين نتنياهو، رئيس وزراء إسرائيل، ويوآف جالانت، وزير الدفاع الإسرائيلي السابق، ليُسهم في استعادة بعض الثقة في النظام الدولي الذي فقد جانبًا كبيرًا منها نتيجة التوسع في استخدام حق النقض «الفيتو» في مجلس الأمن، حيث استخدمت الولايات المتحدة الأمريكية حق النقض "الفيتو" أربع مرات لمنع التوصل إلى وقف فوري وغير مشروط ودائم لإطلاق النار في غزة، وهو الأمر الذي يسمح لإسرائيل بمواصلة عدوانها السافر ضد الفلسطينيين، ويُسبغ الحماية على ما ترتكبه من انتهاكات جسيمة للصكوك الدولية المعنية بالقانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان واتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949، وهي الانتهاكات التي ترقى، دون شك، إلى جريمة الإبادة الجماعية.
ويُعد ما صدر عن المحكمة الجنائية الدولية ضد كبار المسؤولين الإسرائيليين سابقة هي الأولى من نوعها، حيث تصدر المحكمة مذكرات اعتقال لمسؤولين في دولة حليفة للولايات المتحدة الأمريكية، ويعتبرونها من الدول الديمقراطية، الأمر الذي يؤكد عدم رضوخ المحكمة للضغوط الأمريكية الهائلة التي حاولت دفع المحكمة إلى عدم إصدار مذكرات اعتقال بحق المسؤولين الإسرائيليين مع التهديد باتخاذ إجراءات عقابية ضد المحكمة في حالة إقدامها على ذلك. خاصة وأن صحيفة الاتهامات الصادرة "تحيي الأمل في العدالة"، إذ توضح أن المحكمة وجدت أسبابًا معقولة للاعتقاد بأن نتنياهو وجالانت يتحمل كل منهما المسؤولية الجنائية عن الجرائم التالية: جريمة الحرب المتمثلة في التجويع كأسلوب من أساليب الحرب؛ والجرائم ضد الإنسانية المتمثلة في القتل والاضطهاد وغيرها من الأعمال اللاإنسانية.
كما رأت المحكمة أن "ثمة أسبابًا معقولة للاعتقاد بأن المتهمين حرما عمدًا وعن علم السكان المدنيين في غزة من الأشياء التي لا غنى عنها لبقائهم أحياء - بما في ذلك الطعام والمياه والأدوية والإمدادات الطبية، وكذلك الوقود والكهرباء - كما وجدت المحكمة أسبابًا معقولة للاعتقاد بأن نتنياهو وجالانت يتحملان المسؤولية الجنائية باعتبارهما مسؤولين مدنيين عن جريمة الحرب المتمثلة في توجيه هجوم متعمد ضد السكان المدنيين".
وتعتبر قرارات المحكمة الجنائية الدولية ملزمة، فبمجرد أن تصدر المحكمة الجنائية الدولية مذكرة توقيف فإنها تُعتبر واجبة النفاذ، وبذلك تكون السلطات في 124 دولة ملزمة "نظريًا" باعتقالهما في حالة وجودهما على أراضيها وتسليمهما إلى مقر المحكمة في لاهاي. إلا أن ذلك يتوقف على تعاون تلك الدول في النهاية.
وبالتالي فإن ذلك سيُقيد عمليًا سفر أي منهما إلى الدول الموقعة على ميثاق روما وسيُضعف من موقف رئيس الوزراء نتنياهو على المستويين الدولي بعد أن أصبح قانونيًا "مجرم حرب".
وفي هذا الصدد، صرّح جوزيب بوريل، مفوض السياسة الخارجية والأمن في الاتحاد الأوروبي، بأن مذكرات الاعتقال التي أصدرتها المحكمة الجنائية الدولية تُعتبر ملزمة لجميع الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي.
كما أفادت مجموعة من الدول منها حتى الآن كندا وهولندا وإيطاليا وإسبانيا والنرويج وفرنسا وبلجيكا وإيرلندا والسويد وسويسرا بالتزامها "بدرجات متفاوتة" بتنفيذ الأحكام الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية واحترامها لاستقلال المحكمة.
كما صرّح سكرتير عام منظمة العفو الدولية بأن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو "بات ملاحقًا رسميًا" ومعه جالانت، وزير الدفاع الإسرائيلي السابق، وأنه بعد صدور مذكرات التوقيف "يجب على الدول الأعضاء في المحكمة الجنائية الدولية والأسرة الدولية برمتها أن تفعل كل ما في وسعها لضمان مثول هؤلاء الأشخاص أمام قضاة المحكمة الجنائية الدولية".
كما صرحت مديرة هيومن رايتس ووتش بأن "مذكرات التوقيف الصادرة عن المحكمة بحق مسؤولين رفيعين في إسرائيل تظهر أن لا أحد فوق القانون". وفي مقابل ذلك جاء الرفض القاطع لما صدر عن المحكمة الجنائية الدولية من الولايات المتحدة الأمريكية والمجر، وأيضًا من إسرائيل بطبيعة الحال، حيث صرّح نتنياهو بأن "المحكمة الجنائية الدولية أصبحت عدوًا للإنسانية ومعادية للسامية، وأنها أقدمت على إصدار مذكرات الاعتقال بطريقة متحيزة بناء على اتهامات لا أساس لها، بما يعكس الإفلاس الأخلاقي وينتهك الحق في الدفاع عن النفس ضد الإرهاب"، مؤكدًا أن ذلك لن يمنعه من الاستمرار في الدفاع عن إسرائيل بكل الطرق ومتعهّدًا بعدم الاستسلام للضغوط.
وقد مثّلت مذكرات الاعتقال صدمة كبرى لإسرائيل وصفتها الدوائر الإسرائيلية بالزلزال القانوني الهائل، خاصة وأن الحجة التي طرحها نتنياهو بأن ما صدر عن المحكمة الجنائية الدولية يمثل انتهاكًا لحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها تُعد حجة واهية. فما صدر عن المحكمة لم ينتقص من حق إسرائيل في الدفاع عن النفس، إذ ركز على الطريقة التي اختارتها حكومة نتنياهو لتنفيذ هذا الدفاع، والتي لم تركز على استهداف حماس فحسب، بل على ارتكاب جرائم حرب ضد المدنيين الفلسطينيين.
كما أنه لا يجوز لإسرائيل الدفع بعدم اختصاص المحكمة في ضوء أن إسرائيل ليست عضوًا، فإن هذه الحجة مردود عليها بأن فلسطين قد انضمت إلى نظام روما الأساسي منذ عام 2015، وبذلك تملك المحكمة ولاية قضائية إقليمية عليها، وأن هذه الولاية القضائية "تمتد إلى الأراضي التي تحتلها إسرائيل منذ عام 1967، وبالتحديد غزة والضفة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية"، بما يسمح للمحكمة بتناول الجرائم التي تحدث على أراضيها حتى لو اقترفت تلك الجرائم من طرف غير عضو.
ولا تقتصر تداعيات ما صدر عن المحكمة الجنائية الدولية على مجرد تقييد سفر كل من نتنياهو وجالانت إلى الدول الأطراف في نظام روما، بل إنه سيجعل من العسير على الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وألمانيا وغيرها الادعاء بأن تسليحها المستمر للجيش الإسرائيلي لا يُساهم في ارتكاب جرائم حرب، أخذًا في الاعتبار أن المحكمة الجنائية الدولية تملك الحق في تطوير صحيفة الاتهامات الموجهة للمسؤولين الإسرائيليين مستقبلًا بإضافة متهمين جدد من قادة وكوادر الجيش الإسرائيلي في حالة حدوث زيادة إضافية في أعداد القتلى والمصابين والنازحين، وكذلك في حالة استمرار تفاقم مجمل الأوضاع الإنسانية للمدنيين الفلسطينيين.
وتكمن التعقيدات التي تواجه إسرائيل في المرحلة الحالية في أن الحكم الصادر يعد غير قابل للاستئناف، كما أن إجراءات الطعن عليه تستلزم مثول نتنياهو وجالانت شخصيًا أمام المحكمة في لاهاي، وهو ما يُستبعد حدوثه. يُضاف إلى ذلك أن الحكم الصادر من المحكمة أثبت، ربما لأول مرة، أن المسؤولين في إسرائيل ليسوا محصنين من العقاب، وأن إسرائيل ليست فوق القانون الدولي أو مستثناة من تطبيقه.