مجموعة «بادشاه» للكاتب والروائى سعد القرش ليست مجرد نصوص متفرقة، بل نحن أمام عوالم متشابكة كتبت فى مراحل مختلفة، إذ أن التنوع الزمنى يمنح المجموعة طابعًا خاصًا، ويجعلها أقرب إلى مرآة لتجربة الكاتب، وإلى سجل يعكس تحولات رؤيته السردية، بين التكثيف الشعرى والتأمل الفلسفى والاشتباك مع الأسئلة الكبرى للإنسان والوجود.
تُفتتح المجموعة، الصادرة عن دار الشروق، بقصة «بادشاه»، النص الذى منحها اسمها، وفيها يستعيد القرش أجواء الأساطير القديمة عبر لغة تجريدية مشبعة بالشعر. يظهر «بادشاه» فى القصة بوصفه رمزًا يقترب من صورة الإله، بينما يحيل حضورا مبروك وسنية إلى آدم وحواء. بهذا التكوين الرمزى، يعيد الكاتب صياغة لحظة الخلق فى صورة متخيَّلة، حيث لا تنحصر العلاقة بين البشر والقوة العليا فى الطاعة أو العبادة وحدها، بل تمتد إلى جوهر العيش والعمل والمعاناة الإنسانية نفسها.
أما قصة «المناجاة» فتأخذ القارئ إلى إعادة قراءة للتاريخ من زاوية غير مألوفة. هنا يمنح الكاتب صوته لشخصية وحشى، قاتل حمزة بن عبد المطلب، ثم قاتل مسيلمة الكذاب. عبر هذا الصوت الداخلى، يضع القارئ أمام وحشى وهو يتأرجح بين الشعور بالذنب وبين لعنة الأبد، بين تقدير البعض لدوره وبين إدانة الآخرين له. فى هذا النص ينجح القرش فى فتح نافذة على السرد التاريخى والدينى، ليعيد مساءلة الصور الثابتة التى نعرفها عن الشخصيات، وليُظهر التناقض الإنسانى فى أعتى صوره.
وفى قصة «البحث عن شيطان» نعود إلى مصر الملكية، حيث تتجلى الحياة الريفية البسيطة المجبولة على الفقر والجوع. القصة تلتقط لحظة إنسانية دقيقة تكشف كيف يمكن للحرمان أن يشوه النيات الحسنة، فيغدو تمنى الشر وسيلة للنجاة. هنا يطرح النص علاقة الدين بالواقع، بين مَن يراه دعوة للإصلاح العملى، وبين مَن يحوله مع الوقت إلى باب رزق ومهنة. هذه الواقعية الممتدة تجعل القصة قريبة من نبض القرية المصرية، لكنها فى الوقت نفسه تعكس معضلة أوسع: كيف يمكن للجوع أن يغير جوهر الإنسان.
ولا تخلو المجموعة من نصوص ذات نفس فلسفى واضح، مثل قصة «لو» التى تحفر فى احتمالات الموت والفقد والغياب، حيث تصبح الكلمة البسيطة «لو» بوابة للتأمل فى ما لم يحدث وما قد يحدث. وفى نص «وله» الذى يختتم المجموعة، يدخل القارئ فى مواجهة مع فكرة الفناء، لكن من زاوية تتأمل معنى الخلود والحنين الأبدى، وكأن النصوص جميعها تمهد لهذه اللحظة التى تجمع بين الخوف من النهاية والرغبة فى البقاء.
اللافت أن الكاتب سعد القرش، عبر كل هذه النصوص، لا يكتفى بالاشتباك مع الفكرة أو الموضوع، بل ينسج لغة خاصة به، شاعرية مشبعة بالصور، ومكثفة إلى الحد الذى يجعل كل كلمة قادرة على حمل أكثر من معنى. هذه اللغة، مع جرأة الاقتراب من موضوعات الوجود والتاريخ والدين والفقر، تجعل القارئ أمام نصوص تتجاوز الحكى التقليدى إلى أفق أوسع، حيث يصبح كل نص دعوة للتفكير، وفى الوقت نفسه تجربة جمالية.
بهذا المعنى، تبدو مجموعة «بادشاه» أكثر من مجرد عمل قصصى جديد؛ إنها شهادة على أن القصة القصيرة، رغم تحديات حضورها وسط هيمنة الرواية، ما زالت قادرة على أن تفتح مساحات للتأمل الفلسفى والجمالى. هى أيضًا برهان على أن القصة، بتركيزها وكثافتها، قادرة على أن تمنح القارئ تجربة سردية لا تقل عمقًا عن أى عمل روائى، بل ربما تفوقه تأثيرًا لما تحمله من اختزال وإيحاء.
أما قصة «المناجاة»، فهى إعادة بناء سردية جديدة لشخصية وحشى، قاتل حمزة بن عبدالمطلب، ثم قاتل مسيلمة الكذاب. هنا يمنح الكاتب الصوت لوحشى نفسه، ليسرد تجربته ويكشف عن شعوره بالذنب والخذلان. النص يطرح تساؤلات حول السرد التاريخى والدينى، ويعيد النظر فى صورة شخصية عاشت ملتبسة بين التقدير واللعنة.
وفى قصة «البحث عن شيطان»، نقترب من الواقع الريفى المصرى فى زمن الملكية، حيث الفقر والجوع يطبعان تفاصيل الحياة اليومية.
النص يمتاز بواقعية ممتدة تلتقط صراع الناس مع الحرمان، وكيف يمكن للجوع أن يحرف النوايا الحسنة، وأن يجعل الإنسان يتمنى الشر ليجد قوت يومه. القصة تناقش أيضًا علاقة الدين بالواقع، بين وعظ يهدف إلى الصلاح العملى ووعظ آخر يتحول مع الوقت إلى وسيلة للرزق.
تتواصل الروح الفلسفية فى نصوص أخرى مثل «لو»، التى تتأمل احتمالات الموت والفقد والغياب، و*«وله»* التى تختتم المجموعة وتناقش فكرة الفناء والخلود معًا. عبر هذه النصوص، يمزج سعد القرش بين لغة شاعرية مشبعة بالإحساس، وبين جرأة فى الاشتباك مع أسئلة كبرى عن الوجود، التاريخ، الدين، والفقر.
تأتى مجموعة «بادشاه» لتؤكد أن القصة القصيرة، رغم تحديات حضورها، ما زالت قادرة على أن تفتح مساحات للتأمل الفلسفى والجمالى، وأن تمنح القارئ تجربة مركزة ومكثفة لا تقل عمقًا عن أى عمل سردى آخر.