x قد يعجبك أيضا

نوري الجراح: الشعر هو الفن الأكثر شجاعة في التعبير عن كونية الإنسان

نشر في: الجمعة 15 نوفمبر 2024 - 6:22 م
آخر تحديث: الجمعة 15 نوفمبر 2024 - 6:23 م
أسماء سعد

الثقافة العربية فى جوهرها شِعرية
المختارت التى أنجزتها ناهد راحيل هى الأكثر تمثيلاً لشعرى

 

تتألق أشعاره فى سماء الإبداع العربى، معبرة عن نبض الحياة وألوان الثقافة بعمق تجربته، الشاعر الكبير نورى الجراح، والذى تشكلت تجربته الشعرية عبر الترحال والانفتاح الفكرى، وتعمقت من خلال إبداعات وأشعار مشهودة، القاهرة احتفت مؤخرًا بالشاعر فى أمسية نظمتها «دار الشروق» وحضرتها نخبة من الشعراء والكتاب والفنانين وذواقة الشِعر بمناسبة صدور مختارات شِعرية أصدرتها «دار الشروق» تحت عنوان «ألواح أورفيوس» اختارتها وقدمت لها الناقدة الدكتورة ناهد راحيل.

هنا حوار مع الشاعر حول أبرز محطات تجربته الفريدة، وحول المختارات الشعرية وانطباعات حول عمل الناقدة، والصيغة التى اعتمدتها فى اختيار القصائد، وصولاً إلى أفكاره وتجربته الشعرية وآرائه فى حاضر الشِعر العربى ورؤيته لمسار الإبداع الشعرى الحديث.

إلى نص الحوار

كيف تقيِّم تجربة الكاتبة والناقدة ناهد راحيل فى إنجاز مختاراتها من شعرك «ألواح أورفيوس» وما الذى ميّز اختياراتها؟


ــ ناهد راحيل دارسة وناقدة لديها وعى بالأدب والشعر مميز للغاية، صار بيننا نوع من النقاش حول عدد من المسائل الثقافية أثمر رغبة مشتركة فى مختارات تصدر فى مصر تلبى بالنسبة لى فضولاً خاصًا فى استكشاف المختلف فى ذائقة الأنثى الشعرية ونظرتها الخاصة نحو الشعر، لاسيما عندما تكون دارسة وناقدة كـ«راحيل» لديها أفكار وتصورات جديدة حول علاقة الشعر بالمكان، والشعر بالمنفى، وهو ما وجدت تمثيلات له فى قصيدتى. من هنا كانت البداية. وقد رأت أن تكون المختارات شاملة بحيث تغطى التجربة من ديوانى الأول «الصبى» 1982، وحتى ديوانى «الأفعوان الحجرى» ولم يكن آخر دواوينى المنشور العام الجارى قد صدر، ولكنها طلبت منى تزويدها ببعض قصائده لتضمها إلى المختارات. ولقد أبهرتنى النتيجة.

سبق لى التعاون مع نقاد وشعراء من سوريا، والعراق والمغرب والسودان، فى اختيار ونشر مختارات سابقة لى ولم يكن من بين من قام بالعمل سيدة. مع هذه التجربة الجديدة أعتبر نفسى محظوظًا فى أن تكون المختارات الأشمل والأكثر تمثلاً للتجربة قد صدرت فى مصر. وهو ما يجعلنى راضيًا وسعيدًا بعد طول غياب عن القاهرة.

جديد المختارات

ما الذى يميز اختيار القصائد فى هذه المختارات عن سابقاتها؟


ــــ القصائد المختارة استطاعت إلى حد كبير أن تعكس تطور التجربة الشعرية وانتقالاتها وذلك من جوانب مختلفة جمالية وتعبيرية. والدراسة التى قدمت للمختارات سعت خصوصًا إلى تلمس البعد المعرفى فى الشعر، مقرونًا بالجمالى، ومرتبطًا بأفق القصيدة، وتطلعات شاعرها وموقفه من الأشياء؛ لذلك أقول إن عملها بمجمله ذكى ومخلص ولماح، وهو يتحاور بجدارة مع ما أنجزه الناقد خلدون الشمعة فى مختارات سابقة صدرت فى مصر قبل عقد ونصف العقد تحت عنوان «رسائل أوديسيوس» فى سلسلة مختارات أدبية أشرف عليها العزيز الراحل إبراهيم أصلان. والحقيقة أن المختارات الجديدة استقبلت بترحاب لافت من قبل من اطلع عليها، وأخص بالذكر هنا الناقدين الصديقين خلدون الشمعة ومفيد نجم.

مكانة الشعر

حدثنا عن علاقتك بالشعر وكيف ترى موقعه على خريطة الإبداع العربى؟


ــــ سنظل نذكر بأن للشعر مكانة مركزية فى الثقافة العربية وهو مرجعى بالنسبة إلى الذائقة الجمالية للعرب، نحن نتلقاه وننشده بصورة تلقائية، والبشر، حتى لو ابتعدوا عن اللغة، وأهملوا قراءة الشعر، فهم لا يغتربون عن كل ما هو شعرى، فلربما يكون فى لوحة معلقة على حائط أو فى منظر طبيعى، أو فى أغنية أو قطعة موسيقية، أو منظر نراه من النافذة، أو فى التفاتة امرأة، أو موقف مؤثر، الملمح الشعرى موجود فى كل ما يبعث الجمال والحيوية فى الكينونة والكائنات، وهو متغلغل فى حواسنا ولا وعينا بشكل كبير، يمكن استشعار وجوده الباعث على أثرى ما فى الوجود من مشاعر ومواقف وخيالات، ولا يمكن الإحاطة بتجلياته العابرة للأزمنة والأمكنة. أما الشعر فى قصيدة، فتلك حكاية أخرى.

هناك لآلئ فى الشعر العربى المكتوب عبر العصور وفى أشكال فنية متعددة علينا الحفاظ عليها دائما، لا أحد يطالب بإعادة كتابة الشكل القديم (التقليدى) فى الشعر العربى، ولكن يجب أن نستمر فى أن ننهل من ثراء اللغة العربية وتراثها الشعرى ولا يجب علينا كشعراء إهمال ذلك. أقول هذا لأن هناك حالة سائدة من غض الطرف عن الإرث العظيم للشعر العربى، وهى مسألة غريبة ما دام جوهر الثقافة العربية شعرى بالضرورة، ناهيك عن أننا ما كنا لنكون نحن شعراء هذا القرن بكل ما أنجزناه وأنجزته التجربة الشعرية العربية الحديثة، لولا هذا التاريخ الشعرى المديد، ثراء الثقافة العربية يكمن فى مدونتهم الشعرية، فالعرب أعطوا كل ما يملكون من مواهب وقدرات تعبيرية لفن الشعر.

الشعر ونقده

ما أهمية وجود حركة نقدية تفاعلية مع الشعر؟


ــــ من نظرة سريعة على تاريخ التجربة الشعرية العربية الحديثة يتبين لنا أن النقد الأدبى رافق ثورة الشعر الحديث منذ مطلع الانعطافة الكبرى التى ولد معها الشعر الحر، وهكذا قرأنا نصوصًا نقدية واكبت تلك الانعطافة لمحمد النويهى ونازك الملائكة وعبد الغفار مكاوى وعز الدين إسماعيل وسلمى الخضراء الجيوسى وإحسان عباس وآخرين غيرهم، وما كان لثمرات تلك الانعطافة أن تأخذ طريقها إلى الذائقة العامة لولا المصابيح التى حملها هؤلاء النقاد وأضاءوا بها على التجربة الحديثة.
ومن دون أن يبدو كلامى ضربًا من الشكوى، لا مناص من أن كما لاحظ غيرى من الشعراء ذلك الانكفاء من جانب النقاد والانصراف عن الاهتمام بالشعر وتحولاته، علما أن القصيدة العربية دخلت مع العقدين الأخيرين خصوصًا فى ممارسات وأطوار أرى أنها باعدت أكثر فأكثر بينها وبين الذائقة الشعرية التى باتت هى الأخرى فى تحول غير مستدرك ولا هو مرصود من قبل النقد.
وبات من العسير على أحد الإجابة عن السؤال: هل نحن حاليا فى حالة رواج شعرى أم أننا فى حالة ركود ومراوحة فى أسر اللغة والموضوعات التى أنجزها الشعراء المجددون فى العقود المنصرمة؟ شخصيا لا أملك إجابة عن هذا السؤال، والأمر منوط بالنقاد والدارسين المتخصصين بالشعر، حال القصيدة الحرة يحتاج إلى بحث واسع ومتعمق فى المدونة الشعرية ليس فى جغرافية واحدة لبلد عربى واحد، ولكن على نطاق أوسع يشمل جغرافيات القصيدة العربية مشرقًا ومغربًا.

 

زمن الشعر

هل الرواية فعلًا تحتل حاليًا مكانة أكبر من الشعر فى الأدب العربى؟


ــــ الحقيقة أن الرواية احتلت ــــ على الأقل فى النقد اليومى ذى الطابع الصحفى ــــ حيزا أوسع من اهتمامات النقاد نظرا للمكانة التى حازت عليها بشكل متزايد مقارنة بالشعر. شخصيا لا أتفق مثلاً مع ما ذهب إليه الناقد الراحل جابر عصفور حينما أعلن أننا فى زمن الرواية، لا أتفق مع ذلك ولا أؤيد فكرة أننا فى زمن يخص إبداعًا معينًا كأن نقول إنه «زمن الشعر» أو «زمن الرواية».

المسألة ليست فى ضخامة النتاج كمًا. حتى لو كان هناك شاعر واحد هو من تبقى فى أمة، فلا يجب أن نقول إن الشعر فقد مكانته. شاعر واحد عظيم يكفى ليثبت أن تلك أمة مبدعة. ولا ننسى أن العرب مرت عليهم فترات من التقهقر بلغت درجة الجفاف والاضمحلال الثقافى.

غاب العرب عن مناهل الإبداع قرونًا، وعندما رجعوا عبر إبداعهم الشعرى عن حيوية هائلة، فنهض الشعر مرة أخرى وعرف محطات وقفزات جمالية مذهلة، ومنذ محمود سامى البارودى وحتى اليوم هناك كوكبة كبيرة ولا مثيل لها من الشعراء المبدعين من منابت ومناهل وتطلعات مختلفة، لو شئنا أن نسميهم لما استطعنا أن نحصيهم عددا، قامات كبرى من شوقى إلى جبران، إلى بدوى الجبل وناجى، والأخطل الصغير، وعمر أبو ريشة وسعيد عقل والياس أبو شبكة، ونديم محمد، وشعراء المهجر الأمريكى، ونزار قبانى، مرورًا بالسياب والملائكة، وصلاح عبد الصبور وتوفيق صايغ وأنسى الحاج ومحمد الماغوط، وصولاً إلى شعراء الربع الأخير من القرن الماضى وحتى اليوم الذين هم أيضًا لا يحصون عددًا وقد اختلفت أصواتهم وتجاربهم وأمدت بانتفاضاتها الجمالية الشعر العربى بدم جديد ورؤى جديدة.

خصوصيات شعرية عربية

ما الذى يميز الشعر العربى عن الشعر المكتوب باللغات الأخرى؟


ــــ لكى ندرك خصوصية الشعرية العربية فى وحدة اللغة وتعدد الجغرافيات علينا أن نتذكر مثلًا أن الإيطاليين نظموا الشعر الخاص بلغتهم، التى لا تشاركهم بها أمة أخرى، والأمر ينطبق على اليونانيين والأتراك والروس والبولونيين وغيرهم من الأمم بالمقابل نجد أن السوريين والمصريين والمغاربة واليمنيين والعراقيين والفلسطينيين واللبنانيين وبقية العرب على تلك الرقعة الجغرافية المترامية الأطراف فى بلدان وشعوب عربية وإفريقية كتبت الشعر مجتمعة ومتفرقة باللغة العربية، وهذا مصدر ثراء عظيم أتاحه انتشار اللغة العربية فى جغرافيا متصلة هى العالم العربى لا يمكن مقارنته إلا مع الانتشار الذى عرفته ثلاث لغات أخرى هى الإنجليزية والإسبانية والفرنسية فى جغرافيات متباعدة. ناهيك عن خاصية لا يتمتع بها إلى جانب الشعر العربى فى قدمه وأسبقيته سوى الشعر الكلاسيكى اليونانى.

ويهمنى هنا أن أضيف أنه على رغم من المرجعيات والتقاليد الشعرية المشتركة للشعراء فى جغرافيات متصلة تشكل العالم العربى إلا أن لكل بلد وشعرائه خصوصيات ينفرد بها وتعكس نفسها على التجربة الشعرية، فالشاعر فى السودان مثلاً سوف تبرز فى شعره سمات مائزة عن شعر نظرائه فى العراق أو سوريا أو المغرب أو مصر أو لبنان، وهكذا. وذلك يعود بالضرورة إلى الخصوصيات الاجتماعية المحلية والظروف والأحوال الخاصة والعامة فى هذا البلد العربى أو ذاك. ومن مهمات النقد الأدبى الوقوف على مصادر التنوع الثر فى لغة الكتابة وتطلعات الشعراء العرب خلال قرن من الزمن.

الشعر الجديد

هل ترى أن هناك أصواتًا شعرية شابة يمكن التعويل عليها حاليا؟


ــــ أرى أن الشعر العربى بخير، هناك أصوات وتجارب شعرية شابة عظيمة، والملاحظ فى هذا الصدد أن المدونة الشعرية العربية اغتنت بتجارب متزايدة لشاعرات عربيات، وهذا أمر لافت بالقياس إلى تاريخ الشعر العربى؛ حيث ظل حضور التجربة الأنثوية فى الكتابة الشعرية ولقرون عديدة نادرًا ولا يمكن قياسه بحضور الشعراء ولكن بإعمال نظرة فاحصة ومتأملة ودقيقة فى الحاضر الشعرى العربى، نجد أن الحياة العصرية الحديثة بدلت هذا الوضع، وأتاحت الفرصة للمرأة لتغيير هذه الصورة. بات فى وسعنا اليوم القول بثقة إن الشاعرات يساهمن بصورة متزايدة فى صناعة المشهد الشعرى العربى. ولم يعد بالإمكان النظر إلى نتاج المرأة فى الشعر على أنه مجرد ضرب من البوح الذاتى. فالمرأة تكتب القصيدة بكفاءة.

الشعر والتلقى

لديك موقف سلبى من طبيعة التلقى النقدى لما يكتب ويوصف بأنه شعر؟


ــــ تحدثت فى هذا كثيرًا من قبل ولا أريد أن أستطرد فى القول. وباختصار أرى أن هناك فجوة لا يمكن إنكارها بين الشعر والنقد الشعرى، وبين الشاعر والناقد فى رؤية كل منهما لعدد من الزوايا التى تحكم النتاج الشعرى اليوم، خصوصا لجهة أصالة التجربة، وما إذا كانت القصيدة منسوخة أم أصلية، وما إذا كان الشاعر يكتب على ضوء كتابة شاعر آخر، أم يكتب تجربته العميقة التى تستند إلى علاقته الخاصة باللغة. والغريب أن ممارسات النقد اليومى الذى يتصدى للنتاج الشعرى، لم يعد يشغله التمييز بين نص شعرى مبتكر ونص يستهلك نصًا مبتكرًا. هناك شىء من المجازفة فى اعتبار كل ما يكتب شعرًا.


الشعرى والمعرفى

تكتب القصيدة ممزوجة بالتساؤلات الوجودية والدلالات الرمزية المرتبطة غالبا بالأسطورة والتاريخ. وهذا ما يميز تجربتك، ما العلاقة بين الشعرى والمعرفى؟


ــــ سؤالك يحيل على فكرة ثقافة الشاعر والمصادر التى يتشكل منها النسيج المعرفى الذى تتأسس عليه قصيدته. من منظورى الشخصى أرى أن الشاعر فى التاريخ الحديث لم يعد مجرد عازف ربابة بوتر واحد، ولكنه أقرب إلى أن يكون قائد أوركسترا وقصيدته سيمفونية تتداخل فيها الأصوات والأقنعة والخيالات. وهو ما يعكس تعقيد الحياة الحديثة وثراء التجربة الإنسانية، وكونية الإنسان. انتهت صورة الشاعر كشاعر زجل فى قرية نائية. وعلى رغم الحدود الصارمة وسلطة الأختام على جوازات السفر، فإن الشاعر هو هادم تلك الحدود وقصيدته جناح التوق إلى الحرية، وحديقة الجمال المعلقة فى العالم. الشعر الحديث أممى النزعة مهما نأى الشاعر فى أرض فالكوكب كله أرض متصلة وقصيدته مسرح للنشيد الإنسانى، بمباهجه ومآسيه وأساطيره وتواريخيه وأمنياته، لا يستقيم اليوم إنتاج قصيدة حديثة من دون تأملات الفكر مقرونة بالحواس العميقة التى تستشعر كل نأمة فى الوجود الباعث على الجمال والحق والحرية، فى لغة نضرة ونزوع جمالى مبتكر.
الشعر عندى يتخلق مرتبطًا بالعديد من المصادر المعرفية ويتموج فى مسارب الميثولوجيا والتاريخ وصور الحاضر فى مكونات القصيدة وتضاعيف السرد والإنشاد. لا مناص من أن يكون الشاعر صاحب ثقافة موسوعية، وليس عليه أن يكون أقل من ذلك، لينجو بقصيدته من الضآلة وضيق الأفق، ويمكنه أن يحيط فى شعره باتساع الوجود وثراء التجربة الإنسانية.
ولا يتناقض هذا مع حقيقة أن وظيفة الفن فى المقام الأول بينما هو يعبر عن دواخل الشاعر وموقفه فى العالم، أن يرهف الذائقة ويحقق الإمتاع الجمالى. والعرب القدماء فى تذوقهم للشعر (مع الجرجانى وقدامة بن جعفر وآخرين غيرهم ممن كان لهم نظر نقدى فى الشعر) عبروا هذه المعانى فى نثرهم المتأثر برؤى الإغريق للشعر ولطالما كانت تلك الرؤى والتصورات والأفكار لدى الطرفين عن صنيع الشاعر مرتبطة بفلسفاتهم المتعلقة بالوجود والجمال الفنى.

أفق فلسفى

هل يشير هذا إلى أن القصيدة الناجحة لابد أن تصدر عن (وتعبر عن) على أفق فلسفى عميق؟


ـــــ من منظورى الشخصى نعم، فالقصيدة لا يمكن لها أن تتوافر على قيم جمالية عالية من دون أفق فلسفى عميق ليمكنها أن تلامس الأسئلة الوجودية الكبرى المتعلقة بمعنى الوجود الإنسانى، وبتعقيد العلاقة بين الحياة والموت.
تسحرنى فى الشعر العربى القديم تلك الطاقة الجبارة المتفجرة والمتدفقة والتى تخرج عن نطاق المألوف لتستحوذ على الروح والوجدان. خذى مثلا مرثية مالك ابن الريب لنفسه. ملحمة ذاتية خلابة وآسرة فى خيبة الذات وثنائية الوحشة والحنين تبعث فى نفس القارئ أسى عميقا وتولد فينا نزعة للتأمل فى معنى وجودنا الشخصى فى العالم، وفداحة اغتراب الذات.

الشعر والمنفى

 


كيف يؤثر المنفى على تجربة الشاعر وإبداعه؟


ـــــ الأمر مرتبط غالبًا بالقدر الشخصى والظروف والمعطيات الخاصة. فلكل شاعر فى المنفى صيغته الخاصة مع قدره الشخصى وهو ما يتحكم بنظرته إلى فكرة المنفى وموقفه من معنى وجوده خارج المكان الأول. مسقط الرأس.
أنا لا أملك هجائية أو عداء مع المنفى أو مع المهجر، أيًا يكن ما نسمى وجودنا فيه بعيدًا عن السرير الأول والنافذة الأولى. على العكس من ذلك أشعر على الدوام بأننى اخترت ما أنا فيه وما أنا عليه، واخترت طريقتى فى التعبير عن الفجوة بين واقعى الحالى والمكان الذى أعيش فيه، وبين موطنى الأصلى الذى أبصرت فيه النور. شعرى معلق فى المسافة الوجودية الزائغة بين الهنا والهناك. وقصيدتى تراوغ الفجوة بين زمنين ومكانين وتصنع زمنها. «أنام فى جزيرة.. وأستيقظ فى جزيرة»، و«جسدى فى فراش وصرختى فى فراش، ولم أبرح مسحورًا أطوف حيث هلكت». ثمة انشقاق لا خلاص منه ولا علاج له إلا فى القصيدة بوصفها أرض المعركة وزمنها المجازى.
والحقيقة الأقوى من كل حقيقة أننا فى لعبة الزمن مجرد أطياف ساكنة فى كوكب جميل هو الأرض لا يزيد حجم ذرة سابحة فى فضاء ووجود سحيقين. ورغم الآلام والعذابات التى يتسبب بها البشر لأنفسهم جراء الحروب والمجازر المهولة والحراك البشرى العابر للجغرافيات هربًا من القمع والموت علينا أن نفكر بوعى يتجاوز اختلاف الجنس والعرق واللون وسائر الانتماءات التى يعبر الناس من خلالها عن تمايز وجودهم وهوياتهم وثقافاتهم، فإن التعبير عن الذات، والجماعات عن نفسها لا ينبغى له أن يفكك الأواصر المشتركة بين البشر، ولا أن يطفئ شعلة الأمل ويحطم الجسور التى تصنع اللقاء. هنا لا بد من الشعر، فهو الصوت الأعمق والأشجع للضمير الإنسانى فى مواجهة القتلة والديكتاتوريين ولصوص الأعمار، والمعبر بابتكار جمالى عن قيم الحرية والحب والحق والجمال الذى فطر عليه البشر فى مواجهة ثقافة الموت التى فتحت أسواقها ومسالخها للمطالبين بالحرية وحولتهم إلى لاجئين يتدفقون على معابر الحدود والأسلاك الشائكة وإلى غرقى تتناهشهم الأسماك فى أعماق البحار. الشاعر ابن العالم وقصيدته صوت الأمل فوق كل الاعتبارات المحبطة للروح والعقل والخيال. وأخيرًا أرى أن من الميوعة العاطفية أن يشكو الشاعر من المنفى. باسم فكرة مستهلكة وركيكة اسمها الغربة. الاغتراب الوجودى للإنسان المعاصر هو الحقيقة الأليمة.

دار رائدة

حدثنا عن انطباعك بخصوص التعاون مع دار الشروق؟


ـــــ «دار الشروق» مكان ومؤسسة عريقة، الجميع يشيد بها، تميزت بمنشوراتها المختارة بعناية وبحرفيتها العالية، وبما أحدثته من نقلة جمالية للكتاب المنتج فى مصر. لا يمكن أن نسترجع أغلفة الدار من دون أن نتذكر الفنان الراحل حلمى التونى أحد أبرز الشخصيات التى صنعت صورة «الشروق» فى أذهان المتلقين. إنها بحق تجربة رائدة، تجاوزت جغرافية مصر لتصبح «ورشة مرجعية» للكثير من القراء والمثقفين فى مصر والعالم العربى.

قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك

بوابة الشروق 2024 - جميع الحقوق محفوظة