منذ أيام حلت الذكرى الـ135 لمولد طه حسين، الذي ولد في 14 نوفمبر 1889 بعزبة الكيلو، إحدى قرى مركز مغاغة، محافظة المنيا في صعيد مصر. وقد احتفظ بعدد كبير من كتبه وبالعديد من مقالاته ومما كتب عنه، حيث اعتبره من بين أعظم الأدباء والمفكرين المصريين. إذ وجدت في كتبه وأفكاره ما لم أجده في كتابات وأفكار غيره، سواء ممن عاصروه أو من الذين ظهروا بعده. وعلى الرغم من أن النقاد يرون أن كتاباته تُعد نقطة بدء في دراسة الأدب العربي قديمه وحديثه، إلا أنني لا أعتبره مجرد أديب عادي، بل واحدًا من أهم رواد التجديد والتنوير. وبسبب أفكاره التي ركزت على ضرورة احترام العقل، متأثرًا بفلسفة René Descartes، فقد خاض العديد من المعارك التي وُجهت له فيها اتهامات، بدأت بوصفه "عدوًا للدين" وذهبت إلى حد اتهامه بـ"الإلحاد"، نتيجة لمعارضته للأفكار السلفية وسلطة المؤسسات الدينية، حيث فجّر كتابه "الشعر الجاهلي" الذي صدر عام 1926 عاصفة من النقد ربما لم يثرها كتاب آخر، باستثناء كتاب "الإسلام وأصول الحكم" للشيخ علي عبد الرازق.
وقد تأثر طه حسين في بداية حياته الفكرية بثلاثة من المفكرين المصريين هم الإمام محمد عبده، وقاسم أمين، وأحمد لطفي السيد. فمحمد عبده له السبق في دعوته لإصلاح الأزهر، وقاسم أمين له الفضل في قضية تحرير المرأة، وأحمد لطفي السيد، الذي لُقب بأستاذ الجيل وأبو الليبرالية المصرية، دعا لحرية الفكر وهو صاحب المقولة الشهيرة "الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية".
وبخلاف مؤلفاته العديدة، ومنها "الأيام"، و"المعذبون في الأرض"، و"الفتنة الكبرى"، و"الوعد الحق"، و"دعاء الكروان"، و"على هامش السيرة"، يكتسب كتابه "مستقبل الثقافة في مصر"، الذي نشر عام 1938، مكانة خاصة، حيث طرح فيه تساؤلاً لا يزال يشغل عقول الكثيرين، نصه: "لماذا ينظر المصريون إلى أنفسهم على أنهم من أهل الشرق؟".
ويقول: "يأتي هذا بسبب اللغة والدين والمشاركة في هموم الاحتلال والتخلف، وما دمنا نتحدث بلغتهم فنحن مع حضارة الشرق. ولكن تاريخ مصر يقول عكس ذلك، فمصر ثقافيًا وحضاريًا هي دولة غربية بكل ما تعنيه هذه الكلمة من دلالة، فمصر كانت عبر التاريخ على اتصال بدول البحر المتوسط، وكانت هي نفسها مهد حضارة غمرت الآفاق آلاف السنين. هذه الحضارة هي جذور وأصل الحضارة الغربية الحديثة. وخلال التاريخ، كان تأثير حضارة مصر على اليونان وتأثير حضارة اليونان على مصر واضحًا ومُستمرًا. وعلينا أن نسير سيرة الأوروبيين ونسلك طريقهم، لنكون لهم أندادًا، ولنكون لهم شركاء في الحضارة، خيرها وشرها، حلوها ومرها، وما يحب منها وما يُكره، وما يُحمد منها وما يُعاب".
ثم اختتم طه حسين كتابه بسؤال مهم: هل لدينا ثقافة مصرية خالصة؟ ثقافة وطنية؟ فأجاب بلا تردد: نعم، لدينا ثقافة وطنية مصرية وهي قائمة وموجودة، ولسنا أحوج اليوم من أن نركز على تطوير القيم الثقافية على تنوعها، وأن نطلق حرية الفكر والإبداع دون عوائق تعود إلى موروثات بالية، حتى يمكننا أن نلحق بركب المجتمعات المتقدمة، إذ إن التركيز على محاولة تطوير التعليم وحده لن يكون كافيًا دون أن ننهض ونطور القيم الثقافية التي تهدف إلى تعزيز الجدية والموضوعية والمساواة والانضباط واحترام الآخر، وإعطاء مكانة المرأة وتعزيز حقوقها دون تمييز أو تفريق.
ومن بين أبرز أقوال طه حسين: "مصر خليقة أن يُحسب لها حساب حين ترضى، وأن يُحسب لها حساب حين تغضب، وأن يُحسب لها حساب حين تريد"، و"سيجري النيل دائمًا إلى البحر وستجري مصر دائمًا إلى تحقيق آمالها وبلوغ مثلها العليا".
وكان طه حسين، بالإضافة إلى إنتاجه الأدبي والثقافي والفلسفي، رائدًا للإصلاح الاجتماعي، حيث كان هو الذي رفع شعار "التعليم كالماء والهواء، وهو حق لكل إنسان"، فله الفضل في إرساء قواعد مجانية التعليم. وقد عاش طه حسين حياته مقاومًا للتخلف وللفكر المتحجر، داعيًا للتنوير والحداثة، حيث أدرك أن البلاد لن تصلب قامتها إلا بالتعليم والحرية، فالشعوب لن تنتصر على الفقر والمرض والجهل إلا بالمعرفة والعدالة والديمقراطية.
وكان نزار قباني قد ألقى قصيدة بمقر جامعة الدول العربية بالقاهرة عام 1973 في رثاء طه حسين، ذكر ضمن أبياتها: "ارمِ نظارتيكَ، ما أنتَ أعمى نحن جوقةُ العميانِ.. عد إلينا يا سيدي، عد إلينا… وانتشلنا من قبضة الطوفان". فطه حسين هو بحق قامة مصرية أصيلة، وقصة كفاح إنسانية هائلة، وثراء فكري نادر، ورؤية مستقبلية ثاقبة، ومكانة ثقافية وسياسية تجعله، دون جدال، من بين أعظم من أنجبته مصر.