بعد سنوات من التحديات والعمل الدؤوب، تستعد كاتدرائية نوتردام في باريس لاستقبال زوارها مجددًا بعد ترميم شامل أعاد إليها رونقها التاريخي. تلك الكنيسة التي تعد رمزًا للتاريخ الفرنسي والعالمي شهدت حريقًا مأسويًا في أبريل 2019 هز مشاعر العالم وأثار موجة من التضامن الدولي.
كيف تمت إعادة بناء هذا المعلم التاريخي؟ وما هي الجهود التي بُذلت لضمان عودته بشكل أجمل من أي وقت مضى؟ في هذا التقرير، نستعرض تفاصيل عملية الترميم المذهلة وأبرز المحطات التي مرت بها، بالإضافة إلى التفاعل العالمي الذي أحاط بالحادثة والمشروع الكبير لإعادة الحياة لهذا الرمز الثقافي والديني.
- فرنسا بين التراث الديني والعلمانية
تأتي زيارة الرئيس ماكرون قبل الافتتاح الرسمي للكاتدرائية في 7 ديسمبر المقبل، حيث سيلقي كلمة موجزة في ساحة الكنيسة، ملتزمًا بقانون عام 1905 الذي يؤكد فصل الدين عن الدولة في فرنسا.
بعد إخماد الحريق المدمر الذي كاد أن يقضي على الكاتدرائية في 16 أبريل 2019، وعد ماكرون بإعادة البناء وجعل الكنيسة "أجمل من أي وقت مضى" خلال 5 سنوات.
- مراسم افتتاح مهيبة
سيكون حفل الافتتاح في 7 ديسمبر المقبل حدثًا عالميًا، حيث سيُبث مباشرة وسيحضره حوالي 2000 مدعو.
وأوضح قصر الإليزيه أن التبرعات التي ساهمت في الترميم أتت من دول عديدة حول العالم، منها دول ليست ذات تقاليد مسيحية، مما يعكس الطابع العالمي لهذا الأثر. وبعد كلمة الرئيس، سيعلن رئيس أساقفة باريس، لوران أولريش، افتتاح الكاتدرائية من خلال قرع الباب الرئيسي وإيقاظ "الأورغ الكبير" في لحظة رمزية وموسيقية فريدة.
- عودة التماثيل والتحف الأثرية
في إطار إعادة الحياة إلى الكنيسة، سيتم عرض تمثال للعذراء مريم يعود للقرن الرابع عشر، والذي نجا من الحريق، وسينقل عبر شوارع باريس قبل إعادته إلى مكانه داخل الكنيسة، وستفتح الكاتدرائية للجمهور خلال الأسبوع الأول من إعادة افتتاحها حتى 15 ديسمبر حتى الساعة العاشرة مساءً، مع ضرورة حجز الزيارة مسبقًا نظرًا للأعداد المتوقعة للزوار.
- كم بلغت تكلفة مشروع الترميم؟
بعد حريق 2019، تدفقت تبرعات ضخمة لتغطية تكاليف الترميم التي بلغت حوالي 500 مليون يورو، مع تخصيص فائض يقدر بنحو 140 مليون يورو لأعمال الحفاظ المستقبلية على الكاتدرائية التي يبلغ عمرها 861 عامًا.
وأشار فيليب جوست، المشرف على المشروع، إلى أن الكاتدرائية لم تكن في أفضل حالاتها قبل الحريق، مما زاد من أهمية أعمال الترميم الحالية.
- تفاصيل عملية الترميم
بدأت عملية الترميم بتأمين هيكل الكاتدرائية وإزالة الأنقاض والسقالات المتفحمة، ليتم بعد ذلك إعادة بناء البرج والسقف باستخدام مواد وتقنيات تقليدية تتناسب مع الطابع التاريخي للكاتدرائية. كما خضعت الأجراس الثمانية في البرج الشمالي لعمليات تنظيف وترميم وأُعيد تركيبها في سبتمبر 2024، بالإضافة إلى تنظيف وترميم الواجهات الحجرية والنوافذ الزجاجية الملونة، بما في ذلك النوافذ الوردية الشهيرة، استعدادًا لإعادة الافتتاح.
- تاريخ ممتد يشهد على لحظات فارقة في تاريخ فرنسا
تعد كاتدرائية نوتردام من أبرز المعالم التاريخية والدينية في فرنسا، حيث بدأ بناؤها منذ قرون وشهدت أحداثًا تاريخية هامة، منها تتويج الملوك الفرنسيين، مثل نابليون بونابرت.
وتضم الكاتدرائية عددًا من الآثار الدينية النادرة، مثل إكليل الشوك الذي يُعتقد أنه كان على رأس المسيح، مما يجعلها مقصدًا للزوار من جميع أنحاء العالم. ألهمت الكاتدرائية العديد من الأعمال الأدبية والفنية، كان أبرزها رواية "أحدب نوتردام" للكاتب فيكتور هوغو، التي ساهمت في تعزيز مكانتها كرمز ثقافي.
- حادث الحريق ومشاهد المأساة
في 15 أبريل 2019، اندلع حريق ضخم في الكاتدرائية، مما أدى إلى انهيار سقفها وبرجها الشهير وألحق أضرارًا بقبّتها. رغم هذه الكارثة، استطاعت فرنسا أن تجمع المجتمع الدولي لإعادة بناء الكنيسة، ليعيد هذا المشروع الحياة إلى هذا المعلم التاريخي العريق ويجعله جاهزًا لاستقبال الزوار من جديد.
- التفاعل العالمي
عقب الحريق الكارثي الذي أتى على كاتدرائية نوتردام في 15 أبريل 2019، تناولت الصحافة الفرنسية الحادثة من زوايا مختلفة، معبرة عن مشاعر الحزن العميق والتأثر الواسع الذي شعر به الشعب الفرنسي والعالم بأسره.
وصفت صحيفة "لو موند" الحريق بأنه "خسارة لا تُعوض"، مشيرة إلى أن الكاتدرائية ليست مجرد معلم تاريخي، بل رمز لروح فرنسا وقلب باريس. وتطرقت الصحيفة إلى التأثير الثقافي والديني لنوتردام، معتبرةً أنها تمثل "صلة بين الماضي والحاضر"، وأن الحريق "هزة للأمة الفرنسية". وقال أحد المحررين فيها: "نحن لا نشاهد احتراق الحجر فقط، بل نشهد فقدانًا لأجزاء من هويتنا وتاريخنا".
صحيفة "لو فيجارو" بدورها وصفت الحدث بـ"الفاجعة الوطنية"، ونشرت تغطية واسعة للمشاعر التي اجتاحت الفرنسيين أثناء مشاهدة الحريق، حيث نقلت عن أحد الزوار قوله: "إنها جزء من طفولتي وذكرياتي. هذه الكنيسة جزء من حياتنا كفرنسيين".
كما سلطت الضوء على قصص من زوار أجانب كانوا يزورون الكاتدرائية وقت الحادثة، وكيف تأثروا بشكل عميق على الرغم من اختلاف ثقافاتهم.
"ليبراسيون" من جانبها وصفت نوتردام بأنها "أحد الرموز العالمية للتراث الثقافي"، مشيرة إلى أن الحادث أثار حالة من الصدمة، ليس فقط في فرنسا، بل في مختلف أنحاء العالم. وذكرت الصحيفة أن الحريق يعد "تذكيرًا بقيمة وحساسية التراث الثقافي"، ناقلة عن كاتبة فرنسية قولها: "اليوم نفقد جزءًا من ذاكرتنا المشتركة، ونشعر بالحاجة الماسة إلى الحفاظ على ما تبقى منها".
ونقلت "فرانس إنفو"، القناة الإخبارية الفرنسية، مشاهد البكاء والتأثر من الناس في الساحات المحيطة بالكاتدرائية أثناء الحريق. وفي تغطيتها الحية، عرضت القناة صورًا لمواطنين فرنسيين وزوار أجانب كانوا يرددون الأغاني الدينية ويصلون على مقربة من الكاتدرائية، ويعبرون عن حزنهم العميق.
كما نشرت "فرانس إنفو" تصريحات لزعماء دوليين عبروا عن تضامنهم، مثل المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، التي قالت: "نوتردام ليست مجرد إرث فرنسي، إنها إرث أوروبي"، والرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي وصف الحادثة بأنها "مدمرة"، مؤكدًا أهمية نوتردام كرمز عالمي.