(1)الناقد الدكتور مصطفى ناصف (1921-2008) اسم له تاريخه، وله قدره، وله خصوصيته!منذ كنت أدرس الأدب والنقد بكلية الآداب (جامعة القاهرة)، واسم مصطفى ناصف يتردد على استحياء لكن بإكبار وبهيبة ومكانة فريدة بين من سمعت أسماءهم تتردد فى حقل الدراسات البلاغية والنقدية، وقراءة النصوص الشعرية القديمة! كأنه كان يبحر وحيدا فى بحر الثقافة العربية!لم أتعرف على نصوصه مباشرة إلا وأنا أتعمق دراسة النقد العربى القديم بالفرقة الثالثة على يد أشياخى وأساتذتى الكبار: عبد الحكيم راضى، وجابر عصفور (على ما فى عتاقة القراءة وحساسيتها لدى راضى، وحداثتها وجرأتها لدى عصفور)، وقد وعيتُ مبكرا أن ناصف من أبرز تلاميذ الشيخ الجليل أمين الخولى، ومن أكثرهم فرادة وتميزا، مع نخبة منتقاة من زملائه (لطفى عبد البديع، شكرى عياد، عبد القادر القط) وقد انفرد وحده بين تلاميذ مدرسة الأمناء بمسار خاص فى التأويل وقراءة النصوص (الأدبية والنقدية والبلاغية.. على السواء).هذا أستاذ متفلسف متأول فريد النظر والقراءة، أعماله ليست هينة ولا تسلم نفسها لقارئ عابر أو خاطف كلِم، بل هى تستدعى قارئا نوعيا، مثقفا، يقف على أرضية صلبة من المعرفة بالتراث العربى فى كليته وشموليته وتعدديته فى الآن ذاته، وأيضًا لا بد أن يكون له إلمام واسع ودقيق بالنظرية الأدبية الحديثة، والتيارات والمناهج الحداثية المعاصرة.. فإذا افتقد لجناح من هذين أو افتقدهما معا فقد قامت بينه وبين نصوص مصطفى ناصف حواجز وأسوار، ولا أبالغ لو قلت خصومات لا تصالح معها!(2)إلى اللحظة لم أكن استمعت إلى تسجيل صوتى (أو مرئى) واحد للرجل، حتى تفضل ابنه مشكورًا السفير حمدى ناصف فأتحفنا بتسجيلين نادرين؛ واحد منهما عبارة عن حلقة من حلقات برنامج (أمسية ثقافية) الذى كان يعده ويقدمه فاروق شوشة.. أما الآخر فمقطع قصير يتضمن حديثا له عن البلاغة العربية، وقراءة ترد جهد الشيخ عبد القاهر الجرجانى إمام البلاغيين فى زمنه إلى الجاحظ، وكان ذلك عام 1989، ولا أعلم مناسبته التاريخية، ولا أى معلومة أو بيان توثيقى عنه (زمن اللقاء ولا موضوعه ولا حضوره.. إلخ).لكننى وعلى كل حال قد استمعت إلى التسجيلين كاملين، وأنا فى حالة ذهول من القدرة على التدفق والتعبير والحديث الحر المباشر الممتع! كان الحوار بمناسبة حصوله على جائزة الدولة التقديرية فى الآداب عام 1998. وكان اسما كبيرا جدا، نعم هذا رجل مفكر مؤول صاحب نظر وتصور، لم يكن مجرد ناقد أو قارئ نصوص أو شارح ومفسر. كان يليق به فعلًا أن يكون تلميذ العظيم أمين الخولى، وحامل راية التأويل والدرس «الظاهراتى» للثقافة العربية.اسمع ما يقوله عن أستاذه أو بالأحرى ما يستخلصه من قيمة «الأستاذية» ومعناها وممارستها وتأثيرها؛ حين يسأله الشاعر والمثقف والمحاور الرائع فاروق شوشة، خلال الحوار: كنتَ تلميذًا للأستاذ الشيخ أمين الخولى، وكنت من المقربين منه، فكيف أفدت من قربك منه، ومن منهجه، ومن علمه، ومن تشجيعه.. نحن لا نجد كثيرا هذه الأيام من يذكرون أساتذتهم بالفضل، أو يحاولون ردَّ ما لديهم إلى ما أعطاه الأساتذة لطلابهم.. هذا الوفاء ما زال فى جيلك أنت؟(3)وتأتى إجابة مصطفى ناصف الدقيقة المركزة الوافية حاملة للدرس النبيل، والوفاء الكريم، والاستخلاص الذى نبحث عن أشباهه ونظائره الآن، نتلفت يمينا ويسارا، فلا نجد إلا الصمت المطبق والغياب التام؛ فبماذا أجاب ناصف؟ يقول:أنا سعيد جدا بهذا السؤال، لأنى لا أملّ مطلقًا من ذكر هؤلاء (الأساتذة) الذين حباهم الله بما حرمنا نحن منه (هكذا يقول مصطفى ناصف عن نفسه، وعن أبناء جيله!!) وسبحان من قسم الحظوظ، ومن حرمنا ومن أعطاهم! لكنى لا أكاد أشك فى أننى مدين لهؤلاء الأساتذة، مدين أولًا لأمين الخولى، الذى التقط عنايتى منذ البدء بالنصوص ووجَّهها (أى وجَّه هذه العناية) دون أن يذكر شيئا صريحا عن ذلك.. فلم أكن أعلم أين أقف! وكان هو يعلم أين أقف! وأين سأكون! ولم أكن أدرى حينها من أنا ولا شىء!لكن الحقيقة أن الأستاذ أمين كان واحدًا من أساتذتى الفضلاء، هؤلاء الأساتذة الفضلاء لم يتح لهم أن يكونوا ذوى أسماء لامعة، ولكنهم فى حقيقة الأمر كانوا يؤدون واجبهم خير ما يكون الأداء، وكانوا يتمتعون بتواضع علمى وخلق نبيل جدا، وكانوا يمنحوننا خير ما يمنحه الآباء للأبناء.(4)هذا هو درس مصطفى ناصف العظيم للأجيال القادمة! لا علم ولا معرفة ولا تواصل بدون علاقة إنسانية صحية سليمة بين أستاذ وطالب! ولعل درس أمين الخولى العظيم الذى تشتد حاجتنا إليه وتعظم هو ترسيخ تلك القيمة، وتعظيمها للدرجة التى يصوغ فيها معادلته الشهيرة: ط (الطالب)= أ (الأستاذ) + ز (الزمن)(وللحديث بقية).
مقالات اليوم حسن المستكاوي باريس.. الكرة الجديدة ضد الكرة القديمة! عبد الله السناوي أزمة الثقافة والمثقفين.. كلام عند الجذور عماد الدين حسين هل يتخلى ترامب عن نتنياهو؟ أيمن النحراوى حكم المحكمة الفيدرالية وتلجيم سياسات ترامب الجامحة قضايا يهودية ما الذى يدفع ترامب إلى الاستمرار فى تأييد إسرائيل؟ من الصحافة الإسرائيلية عملية «مركبات جدعون».. هل يتم تجاوز الخطوط الحمراء؟
قد يعجبك أيضا