x قد يعجبك أيضا

حياة فى قلب الموت

السبت 31 مايو 2025 - 9:35 م

اعتبرتُ دائمًا أن مقدمات محمد المخزنجى لمجموعاته القصصية جزءٌ من هذه المجموعات، يغزلها من نفس الخيوط، ويختار لها نفس المقام الموسيقى، ويلونها بنفس الألوان، لا يتكلف السرد، لأنه ينظر ببساطة إلى كل شىء باعتباره مادة للحكايات.
فى طبعة جديدة من مجموعة «الموت يضحك» أصدرتها دار الشروق، يقدم المخزنجى المجموعة بقصة طويلة واقعية عن ظروف صدور المجموعة لأول مرة، يبنى الحكاية مثلما يبنى قصصه، بداية ووسطًا ونهاية، ووصفًا دقيقًا أنيقًا على القد والمقاس، وعاطفة متدفقة مضفرة بتأمل عميق للأحوال، وصراعًا ينتهى إلى لحظة استنارة وقرار.
الفارق الوحيد هنا أن شخصيات المقدمة/ القصة من الواقع المباشر، وبطلها المخزنجى نفسه، وكان وقتها يدرس فى الاتحاد السوفيتى السابق، للحصول على درجتى الماجستير والدكتوراه.
طُبعت «الموت يضحك» لأول مرة بأخطاء فاحشة، أصابت مؤلفها بالنكد والحزن الذى تضاعف جراء البيروقراطية السوفيتية الفاسدة، إذ أرادت تحويله من دارس فى أوكرانيا إلى دارسٍ فى بلاده، ليدور صراع خطير داخله، بعد نصائح بتقديم هدايا لـ«تمشية أموره».
وسط هذا الليل الحالك، تصل إلى المخزنجى مجلة «المصور»، وفيها مقال الناقد الكبير رجاء النقاش الطويل عن المجموعة القصصية التى صدرت مشوهة، يبشر فيها بموهبة كاتب لم يقابله أبدًا، فيستعيد المخزنجى الروح، ويسترد طاقة المواجهة، طلبًا لحقه المهدور.
تظن أن قصة المقدمة منفصلة عن قصصها البديعة، وما إن تقرأ القصص حتى تجدها من نفس النسيج، شعوريا أو لا شعوريا: فمثلما جاءت هدية النقاش لتبتلع هدايا المرتشين، يمثل بعث المجموعة مصححةً - بعد كل تلك السنوات - هدية ومكافأة متأخرة لصاحبها.
ومثلما تصف المقدمة أوقاتًا عصيبة وحزينة لمؤلفها، فإن قصص المجموعة تترجم أيضًا هذا الحزن، وذلك الشعور باختفاء المعنى والمستقبل، ومثلما ترصد المقدمة صراعًا ومحاولة للنجاة، فإننا نلمح هذه المحاولات فى قصص المجموعة بطرقٍ وآليات شتى.
وفى كل الأحوال، لا يتخلى المخزنجى عن جوهر الشعر فى التكثيف وتوليد المعنى، واللون والنبرة الخاصة، وتوظيف اللغة، فصحى وعامية، وتحويلها إلى «لغة فنية» تخص التجربة، وتعبر عن الذات الساردة، مثلما تعبر عن الحكاية.
أبطال «الموت يضحك» مأزومون لأسبابٍ شتى، ولكنهم، حتى بدافع غريزة الحياة يقاومون، فإذا جاء الموت، وحتما سيجىء للإنسان عمومًا، يكون ذلك بعد صراع ومشاكسة، وإثر معركة أحيانًا، تترك آثارها، وتعمد أطرافها بالدماء.
الحياة فى المجموعة حاضرة فى قلب الموت: انظر إلى تفاصيل الحياة، وتساقط ثمار التوت فوق عربة، تحمل مريضة نفسية متوفاة، يوضع جثمانها فى مكان تسرح فيه الفئران، وتأمل لحظات تحولت فيها محاولة قتل صبية جميلة إلى شعور جارف بنبض جسدها اللدن، وانظر إلى محاولات ذلك الصبى لتخفيف آلام أمه، التى تصارع الموت، بأن يبتكر لعبة حبس التنفس وإخراجه، وكأنه يتحدى الفناء «مجازيا»، واقرأ عن ذلك الطبيب المعتقل والمطارد، والذى يحتمى بجلبابه، ويرى العالم من عيون الخباء، وراقب مأساة الكلاب التى تلهم رجلًا طاقة الرد والمقاومة.
تنويعات على نغمة حياة أسيرة ظروفها، مثل مجاز المزرعة البديع لآليات تدجين وتسمين الدجاج، ولكن المحاولات لا تتوقف، وتصل إلى ذورتها فى درة المجموعة، ولعلها واحدة من روائع فن القصة القصيرة العربية، وأعنى بها قصة «البلاد البعيدة»، حيث يهرب طفل فى عربة البريد بالقطار، ويجد داخل العربة طفلة منسية مثله، فيصنعان عالمهما الخاص، ولكن الغيلان لا تتركهما، يدفعان الثمن ضربًا وإهانة، ولا يصلان أبدًا إلى البلاد البعيدة، التى يحلمان بها.
مساجين السياسة يبحثون عن ابتسامة أطفال المدارس، وتلويحهم باليد، وطفلان مسلمان اقتحما مقبرة مسيحيين لسرقة الصلبان الذهبية، يخرج أحدهما باكيا متذكرًا والده الذى يشبه الميت المسيحى، وأفراد أسرة بائسة يقاومون انتظار سقوط منزلهم فى أى لحظة، من خلال ضحكات صاخبة، وفى أوكرانيا، حيث درس المخزنجى، يقاوم السارد أخبار هروب الناس من كارثة شيرنوبل، بأصوات تغريدات الطيور، دون أن يعرف أنها ربما تكون تغريداتها الأخيرة.
فى قصة «دم الغزال» تنويعة أخرى: مطاردة أبدع المخزنجى فى وصفها، صوتًا وصورة وحركة ولونا، بين صياد فى سيارته، وغزال وحيد، يقفز للنجاة، على خلفية واد وجبل ورمال وصخور، صراعٌ بين حياة وموت، والغزال ينحشر فى مدخل كهف تسكنه ذئاب جائعة.
هذا الغزال الذى يتحرك فقط بغريزة الحياة والهرب، يبدو مثل بطل تراجيدى معروف المصير، ولكن جسده المثخن بالرصاص، والممزق بالذئاب، لا يتوقف عن الاختلاج والمقاومة، ومن قلب الموت والفناء، ووسط بحيرة من دم الغزال، يترك الجسد ملحمة بقاء، ومجاز مقاومة لم تنتصر.
ما يأخذ قصص المخزنجى إلى آفاق إنسانية واسعة، هو تلك الرؤية العامة للحياة، وذلك التأمل العميق لقوانينها، مع تعاطف غير محدود مع كائناتها، وليس مع الإنسان فقط، وسط صراع يبدو غير متكافئ، ولكنه جدير بالتخليد والإشادة، وهو فى جوهره صراعٌ بين الحلم والقدرة، أو بين ما نريد وبين ما تسمح به الأحوال والظروف.
لذلك لن تلمس تنافرًا فى مجموعة «الموت يضحك» بين القصص المصرية المغرقة فى تفاصيلها المحلية، وبين قصتين تدور أحداثهما فى أوكرانيا، ذلك أن العين الساردة متعاطفة مع أشواق الإنسان وأحلامه، للخروج من دائرته الضيقة، وإمكانياته البسيطة، إلى آفاق أوسع.
تستطيع ببساطة أن تمد خيطًا رفيعًا، غير منظور، بين أحوال الطفل الفقير «إسماعيل بروسلى» الذى تحيطه أمه بعناية خاصة، وتحاول أن تحفظ سره، وبين لحظة اكتشاف سائقة ترولى ما زالت تحتفظ بأنوثتها، رغم مهنتها الشاقة فى البلاد البعيدة.
الإنسان واحد، ومشاعره واحدة، ولحظاته وتفاصيله الصغيرة هما بالضبط ما يصنعان المعنى، وهما بالضبط مادة القصة القصيرة، ومصدر شاعريتها الفريدة. وبينما رفض المخزنجى، فى قصته الشخصية، أن يمنح هدايا كرشوة للموظف الروسى الفاسد، فإنه فاز بهدايا بديلة من القصص اللامعة، ومن التقدير الأدبى المستحق. وتحققت أخيرًا «العدالة الشعرية»، ولو بعد حين.

مقالات اليوم

قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك

بوابة الشروق 2025 - جميع الحقوق محفوظة