‎لا للذين يحبسون المال لأنفسهم!

السبت 31 مايو 2025 - 9:20 م

‎المال ركن أساسى فى حياة الإنسان، هو الوسيلة التى يُلبى بها الإنسان مصالحه الدنيوية والأخروية، ويُنظر للمال على أنه نعمة من الله يجب شكره عليها، وأمانة يجب رعاية حقوقها، وأنه أيضًا وسيلة للعبادة والخير، فالمالك الحقيقى لكل الأشياء هو الله، والإنسان خليفته مخول بالتصرف بالحق والخير فيما امتلكه من مال الله الذى منحه إياه، هكذا يقول سبحانه: «وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِى آتَاكُمْ» (النور:33).
‎والمال لغة كل ما له قيمة، أو ما يملكه الإنسان من جميع الأشياء (مال وبنون...)، وعند جمهور الفقهاء هو كل ما يمكن حيازته والانتفاع به، سواء أكان عينًا كالذهب والفضة والنبات والحيوان والنقود وغيره، أو منفعة كسكنى الدار المستأجرة، أو عرضًا كمال التجارة (الاستثمار بلغة العصر)، أو حقًا كحق الحضانة، أما ما لا يحوزه الإنسان فلا يسمى مالا كالطير فى الهواء، والسمك فى الماء، وعليه فإن الأعيان (الممتلكات) والمنافع والحقوق كل ذلك يعد مالًا.
‎يكشف هذان التعريفان -اللغوى والفقهى- مشاكل مجتمعنا التى أصبحت مستعصية علينا، لأننا تركناها وأهملنا علاجها لفترات طويلة، فأصبحت سرطانًا يأكل فى جسد المجتمع، ويهدد استقراره وأمنه؛ تنحصر مشاكلنا الآنية فى الثلاث موضوعات السابق ذكِرها: أولًا سُكنى الدار المستأجرة وهو ما يُطلق عليه الآن قانون الإيجارات القديمة، وثانيًا التجارة أو الاستثمار، وتتمثَّل فى سياسة الانفتاح الاقتصادى، وثالثًا حق الحضانة وهو جوهر قانون الأحوال الشخصية!
• • •
‎فيما يخص أولًا: الدار المستأجرة، تشارك مصر كلها فى حل هذه المشكلة بحوار مجتمعى وقانونى على جميع المستويات الرسمية: السلطة القضائية بحكمها الصادر من المحكمة الدستورية فى نوفمبر 2024 الواجب تنفيذه، والسلطة التنفيذية أى الحكومة بتقديمها مشروع قانون لتنفيذ حكم المحكمة، يأخذ فى الإعتبار تأثيرات تنفيذه على فئة من المجتمع لا تستطيع التجاوب مع هذا الحكم نظرًا لظروفها المادية الصعبة، وكبر سنها، وهما نفس ظروف الملاك، والسلطة التشريعية التى تناقش مقترح الحكومة للموافقة على قانون لا يخالف حكم المحكمة الدستورية، ويصدر بأقل الخسائر لفئة أصبحت قليلة العدد بالنسبة لعدد كبير من الملاك ظلموا لعقود طويلة بسبب قوانين إستثنائية زالت أسبابها من فترة تزيد على نصف قرن، استفاد فيها كل المستأجرين بلا إستثناء (أغنياء وفقراء) من قيمة إيجارية شبه معدومة، كما لا نستطيع تجاهل المشاركة الإعلامية والشعبية الكبيرة بين طرفى المشكلة على محطات التلفاز، وشبكات التواصل الإجتماعى الذى وصل إلى ما يمكن وصفه بحرب كلامية!
‎نرى أن سبب المشكلة الذى لا يخفى على أحد فى قانون الإيجارات القديمة هو "حبس" مال فئة من الشعب، ومنعها من الإستفادة من أملاكها، فالذين كانوا يستثمرون أموالهم فى بناء العقارات ليعود عليهم بعائد شهرى يساعدهم على أعباء الحياة فقدوا هذا العائد بسبب نسب التضخم الهائلة على مر سنين طويلة، فأصبحت أملاكهم تمثل لهم خسارة كبيرة لأن هذه العقارات تتطلب تكاليف صيانة لا تغطيها عوائدها الإيجارية، وبالتالى هذا القانون لا يحقق التوازن بين حقوق المالك والمستأجر، فضلًا عن إتاحة القانون القديم التوريث التلقائى للعقود للمستأجرين، ومن جهة أخرى فإن مشروع القانون المقدم يطرح تحديات قانونية بإخلاء هذه الشقق لصالح المالك، وهذا يمكن أن يهدد السلم الإجتماعى، مما يفرض على الحكومة توفير السكن البديل لمن يستحقون، الذين ليس لهم بديل آخر أو إمكانيات مالية للتبديل!
• • •
‎وفيما يخص ثانيًا: حبس "المال" عن مستحقيه، فهى ظاهرة بدأت مع عصر الإنفتاح الإقتصادى فى سبعينيات القرن الماضى، فكان من نتائج هذه السياسة أن التنمية توجهت نحو الصناعات الاستهلاكية، وابتعدت عن الاستثمار فى بناء الإنسان والمجتمع، فظهرت طبقات جديدة أُثرِيَت ثراءً شديدًا فى وقت قصير جدًا، وبدون جهد يذكر، سُميت فى البداية «القطط السمان» التى توحشت حتى وصلت أموالهم لأرقام خيالية، أصحابها لا يستطيعون حصرها أو عدها فى مجتمع فقرائه يمثلون الأغلبية العظمى؛ كانت من أهم النتائج الكارثية لهذه السياسة انعدام العدالة الاجتماعية، وضياع الطبقة الوسطى: العمود الفقرى لبناء وتقدم الدول النامية مثلنا!
‎ولعل ما يدور فى أيامنا من حبس «المال» لهذه الطبقة الجديدة دليل قاطع على طرحنا، فسياسة الانفتاح هى «سياسة السداح مداح»، لأنها طُبقت دون فرض أى ضوابط على أهدافها أو نوعية الإستثمار المطلوب العمل فيها، ودون فرض ضرائب تصاعدية - كما يحدث فى أكبر الدول الرأسمالية - فرأينا -على سبيل المثال- استثمار فى مجال التعليم، وهذا شىء ممتاز، ولكن الواقع أثبت عكس ذلك، فالتعليم لم يتحسن على الإطلاق، لأن الاستثمار فيه كان بهدف تحقيق أرباح مالية فقط، بلا تطوير أو خدمة حقيقية؛ تم بناء جامعات خاصة كثيرة، دون استعدادات حقيقية لها، حيث تم استدعاء كل أعضاء هيئة التدريس من الجامعات الحكومية التى صرفت عليهم أموالًا باهظة لتكوينهم، بابتعاث بعضهم للخارج على نفقة الدولة، أو باستكمال دراستهم بالداخل باستخدام إمكانيات الدولة أيضًا!
‎تخرَّج فى هذه الجامعات الآلاف بجميع التخصصات، لكنها لم تعمل على اعداد جيل جديد من الباحثين وأعضاء هيئة تدريس جدد يخدمون جامعاتهم، فضلًا عن أن طلابهم كانوا يستخدمون الجامعات الحكومية للتدريب، ولعل أوضح مثال على هذا، طلاب كليات الطب يتدربون فى المستشفيات الحكومية، رغم أن الحكومة اشترطت على أصحاب الجامعات الخاصة بناء مستشفى لكل كلية للموافقة على فتحها، لكنهم لم ينفذوا إلتزاماتهم، والأدهى أن أحدًا لم يحاسبهم رغم مرور سنين طويلة، أمر لو تم تنفيذه لخدم قطاع آخر مهم جدًا وهو قطاع الصحة!
• • •
‎وعن ثالثًا: حق الحضانة، أو قانون الأحوال الشخصية الذى يظهر من حين لآخر كما حدث لقانون الإيجارات القديمة، فهو ما زال لا يراوح مكانه، ومشكلة عدم إصلاح العورات الكثيرة فيه أن المعنيين به لا يفكرون بعلاج عوراته بموضوعية، أى من وجهة نظر قانونية أو شرعية، ولكن من منطلق عاطفى وإنتقامى، بينما إصلاح هذا القانون فى غاية السهولة، فإن كل طرف له حقوق وعليه واجبات، لا يجب الفكاك منها، فلا يجب تغليب طرف على آخر، فإن الحاكم الرئيسى هو مصلحة الطفل التى يتناساها كلا الطرفين، فالأب يتفنن فى الهروب من أداء نفقة أبنائه، والأم تتعنت بعدم تمكين الأب من رؤية أبنائه، فيكون الخاسر الوحيد والأكبر هم الأطفال، وهؤلاء هم المعنيون فى المقام الأول من إصلاح هذا القانون المعيب، فهذا أيضًا حبس «المال» أى لما للأب أو للام وللطفل، نتائجه كارثية على الصحة النفسية للمجتمع واستقرار الأسرة نواة المجتمع!
• • •
‎ونؤكد مما سبق أن «الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا» (الكهف:46)، ولأن كل ما نملكه هو مال الله، والإنسان مستخلف بالحفاظ عليه، ورعايته وإنفاقه فيما يُرضى الله، وما ينفع الناس، فإن حبس «المال» بأنانية للنفس أو للذات، وبالتالى منعه عن إصلاح الحياة أو تعمير الأرض يُعتبر خطيئة كبرى، لأنها خيانة لإرادة الله، ومعصية لمشيئته، كما أن حبس «المال» يؤدى إلى عمل خلل فى موازين الحياة، ولتعليمات الله التى تنشد حياة مبنية على العدل، وفرض المساواة بين الناس، ولضمان ذلك جُعلت الزكاة ركن من أركان الإسلام الخمسة، والزكاة هى الأعشار فى المسيحية واليهودية فهى أيضًا ركن من أركان الإيمان.
‎لم يكتف الله بفرض الزكاة، ولكنه جعل التكفير عن الذنوب بالفدية وغيرها من مصارف الخير، وتحقيق العدل، كما أمر الحاكم بأخذ الصدقات: «خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا» (التوبة:103)، وبالإضافة إلى ذلك، جعل الركن الخامس فى الإسلام «الحج» مبنيًا على القدرة المالية، والنفقة لمن استطاع إليه سبيلا، وكل حسب سعته، كلها مصارف لتشيع الحركة الإقتصادية فى المجتمع، وذلك لتمنع تحكم المال بين فئة قليلة من الناس، فيتحكمون فى المجتمعات، وفى توجهات الدول، هكذا يقول سبحانه: «كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأغْنِيَاءِ مِنْكُمْ» (الحشر:7)، فالغرض الأساسى إذن هو «تفتيت الملكية الخاصة»، ودوران المال فى شرايين المجتمع، راجع مقالنا فى الشروق: «الزكاة وتفتيت الملكية الخاصة فى الإسلام» (26/6/2016)!
‎ودليلنا على ذلك قوله سبحانه وتعالى الصريح والمباشر ودون أى مجاز فى سورة التوبة: «(…) وَٱلَّذِينَ يَكۡنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلۡفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ فَبَشِّرۡهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٖ. يَوۡمَ يُحۡمَىٰ عَلَيۡهَا فِى نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكۡوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمۡ وَجُنُوبُهُمۡ وَظُهُورُهُمۡ هَٰذَا مَا كَنَزۡتُمۡ لِأَنفُسِكُمۡ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمۡ تَكۡنِزُونَ» (34/35)، هكذا يكون عقاب الذين يحرمون الناس والمجتمع من أموالهم - ونكرر- لأن «المال» مال الله، والإنسان مستخلف من الله لتوزيعه كما أُمِر لتحقيق الخير والعدل والمساواة والرفاهية للجميع!
‎وختامًا نقول بملء الفم: لا للذين يحبسون المال لأنفسهم!

‎أستاذ متفرغ بكلية اللغات والترجمة (قسم اللغة الفرنسية) - جامعة الأزهر

 

 

مقالات اليوم

قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك

بوابة الشروق 2025 - جميع الحقوق محفوظة