أثارت ما سميت بـ (تسريبات الرئيس عبدالناصر) فى الفترة الأخيرة جدلا ولغطا شديدين، وكما هو الحال مع مختلف الوثائق والوقائع التاريخية، أخذ الفرقاء المتفرقون يقومون بانتقاء ما يروق لأفكارهم العقائدية ومصالحهم الاجتماعية ومداركتهم الثقافية، ثم يسلطون عليها الأضواء حتى تبدو وكأنها الحقيقة، أو الأقرب إلى الحقيقة، أو كأنه لم يوجد غيرها على صفحات التاريخ الحقيقى.ترك الجميع، أو الأكثرية، ما تم «تسريبه»، جانبًا وجعلوا يتنقلون يمنة ويسرة بين هذه الواقعة وتلك، وبين هذه الوثيقة وتلك، ليحاولوا إثبات ما يريدون إثباته، وينكروا ما عداه.وقد انشغل أنصار الرئيس عبدالناصر بمحاولة الدفاع عن صحة «التسريبات»، من الناحية التقنية وعن صحة الاتجاهات الفكرية المتضمنة فيها، بينما أن ما يمكن أن نطلق عليهم (خصوم الرئيس) أخذوا يكرسون جلّ جهدهم من أجل القول بأن عبدالناصر إنما بذل جميع جهده تقريبًا، وخاصة طوال السنوات منذ 1967 (سنة عدوان يونيو) حتى 1970 (سنة الرحيل) لتكريس «الخيار السلمى» فى التعامل مع إسرائيل، وخاصة منذ قبول مبادرة روجرز فى يوليو 1970. وإذا بوسائط التواصل الاجتماعى الموالية لهذا الاتجاه، أخذت تبحث عما يؤيد وجهة نظرها، وتنشره بكل ما تملك من جهد، وتذيعه على الجمهور بكل الطاقة لتثبت ما تريد إثباته.وأستطيع القول، وقد كنت «شاهدًا»، إلى حدّ ما، إن صحّ التعبير، على ما جرى فى الفترة من 1965 تقريبا حتى 1972، إن فريق «الأنصار» وفريق «الخصوم» للرئيس عبدالناصر، فاتهم النظر إلى الواقع الاجتماعى المتغير، مصريًا وعربيًا وعالميًا، من أجل التبصّر واستنباط الحكم السليم، نسبيًا، على ما جرى.• • •ما أريد قوله ها هنا، أن الرئيس عبد الناصر، من بعد 1967 «العدوان» و«النكسة» ليس هو بالضبط القائد السياسى - العسكرى جمال عبد الناصر فى فترة 1952-1964 أو 1965، ربما منذ «الانفصال السورى» عن «دولة الوحدة» الجمهورية العربية المتحدة عام 1961. ثم إن عبد الناصر فى فترة 1963-1967 ليس هو بالقطع عبد الناصر فى فترة (إزالة آثار العدوان) 1967-1970.وسوف أتحدث من وجهة نظرى، كشاهد من فئة الشباب آنئذ، وحيث عملت لفترة فى «أمانة التثقيف» باللجنة المركزية لمنظمة الشباب الاشتراكى (1966-1970) وكنت بمثابة «الأمين المساعد» لتلك الأمانة، إلى جوار أمينها الأستاذ عبد الغفار شكر.فقد تكونت (بعد الانفصال السورى ذاك) ما يمكن أن يعتبر «طبقة عازلة» بين القيادة السياسية التاريخية للرئيس عبدالناصر، كزعيم «كارزماتى» جاذب، وبين الجمهور الشعبى العريض الذى تَكوّن (وفق تعبير «الميثاق الوطنى» لعام 1962) من العمال والفلاحين والجنود والمثقفين والرأسمالية الوطنية. ولن نخوض فى مغزى هذه المصطلحات الآن، ولكن تكفى الإشارة إلى أن الطبقة العازلة المذكورة، تكونت من فئة «العسكريتاريا» التى وقفت شاخصة أمام السدّ الذى ربما شيّدته، ولو بصورة غير مباشرة، ولكن بدأب، بين الرئيس وجمهوره الشعبى العريض المفترض. وبينما مثّل عبدالناصر نوعًا من (الزعامة) التى أخذت تتآكل ربما، ونسبيا، شئيًا فشيئًا على مدى سنوات النصف الثانى من الستينيات، بفعل الزحف المنتظم للطبقة العازلة، فإن العسكريتاريا بدت قوية وواثقة، دون العناية اللازمة بواجبها العسكرى - القتالى فى مواجهة المخاطر المحدقة. وهنا وقعت مأساة الخامس من يونيو 1967 حين (تحطمت الطائرات عند الفجر) دون حرب، عدا الانسحاب الذى جرى الأمر به، عبر صحراء شبه جزيرة سيناء، ووقع فيها ما وقع.حدثت المأساة على وقع تغير اجتماعى، لعبت فيه الطبقة العازلة دورًا حاسمًا، من خلال تولّى المواقع القيادية فى «شركات القطاع العام»، ومن خلال الإشراف على تطبيق ما سُمّى «أحكام الحراسة» على الأموال والمساكن لبعض المتنفذين فى مواجهة النمط الرئيسى لثورة يوليو 1952 . • • •تلك إذن هى (الطبقة الجديدة) التى تقدمت للسيطرة على جهاز الإنتاج، ولتقود الاتجاه المحافظ سياسيًا قائمًا على نوع من «رأسمالية الدولة»، إن صحّ التعبير. وكان ما كان من ترهّل عسكرى واقتصادى وسياسى، قاد إلى ما جرى صبيحة (تحطم الطائرات عند الفجر). وبينما أن «الطبقة العازلة» بنفوذها المتشعب ذاك، قد أقْصَت الرئيس عبدالناصر، عمليا، لسنوات، عن مركز اتخاذ القرار، فإن (الثائر) عبد الناصر ما كان له بعد أن (انكشف المستور) صبيحة الخامس من يونيو 1967، إلا أن يطيح بجذورها التى أسماها (مراكز القوى) ويعيد بناء القوات المسلحة، بشرًا وفكرًا وتسليحًا، استعدادًا لحرب، قدُّر لها أن تقع بالفعل بعد ذلك بسنوات، بعد وفاته، (حرب أكتوبر).هذا، وكانت ثمّة فئة شابة كثيفة فى أواخر الستينيات على غير اقتناع تام بمسيرة ما يسمى (الحل السلمى) ولم تكن لتوافق الرئيس تمامًا على قبول ما سُمّى بـ«مبادرة روجرز» للتسوية السياسية. ولكن لم تكن لدى هذه الفئة الحقائق كاملة على كل حال. وكان بعض من تلك الفئة، حتى بعد وفاة الرئيس عبدالناصر، ترى، فى قرارة أنفسها، أنه ربما تستعيد ثورة يوليو الحقيقية زخمها، ولو بعد حين. ولقد أزيحت الشريحة الكثيفة للطبقة العازلة أثناء فترة إزالة العدوان ( 1967-1970)، إلى حد كبير، ولكن لم تتم إزاحتها تمامًا. وجاء ما أسماه الكاتب الصحفى الفذ أحمد بهاء الدين (الانفتاح سداح مداح)، منتصف السبعينيات، ليدعم، عمليا، الشريحة العليا من الطبقة العازلة. وجرى ما جرى بعد ذلك خلال السبعينيات وحتى 1981. أستاذ باحث فى اقتصاديات التنمية والعلاقات الدولية.
مقالات اليوم حسن المستكاوي باريس.. الكرة الجديدة ضد الكرة القديمة! عبد الله السناوي أزمة الثقافة والمثقفين.. كلام عند الجذور عماد الدين حسين هل يتخلى ترامب عن نتنياهو؟ أيمن النحراوى حكم المحكمة الفيدرالية وتلجيم سياسات ترامب الجامحة قضايا يهودية ما الذى يدفع ترامب إلى الاستمرار فى تأييد إسرائيل؟ من الصحافة الإسرائيلية عملية «مركبات جدعون».. هل يتم تجاوز الخطوط الحمراء؟
قد يعجبك أيضا
شارك بتعليقك