للحروب بعدٌ درامى خاص، فهى تخلق ضحايا وجلادين، وبالطبع مثل سائر الشخصيات يحتمل هؤلاء مساحات من البين - البين أو الكثير من المناطق الرمادية. حدث ويحدث أن يأتى فجأة ما يزعزع حيوات البشر العادية ويجعلها تنقلب رأسا على عقب. أثر الصراعات المسلحة والاستبداد على أهل البلدان المختلفة يكون كالزلزال الذى لم يترك شيئا على حاله. فى رواية خالد منصور «القائد زهرة» التى صدرت أخيرا عن دار الشروق، نجد أنفسنا أمام نماذج من البشر قد نقابلها بمنطقة الشرق الأوسط فى أى لحظة وكل مكان.. ناس يعرفون جيدا أن بلدهم فى حالة حرب مفتوحة بلا نهاية محتملة أو حتى ممكنة، فى أفق خراب بانت بوادره، لكنهم يتشبثون بالأمل. يستسلمون أحيانا ويحاولون التعايش مع الوحش، لكن يحدث مرة أخرى أمر حاسم يجعلهم يخاطرون من أجل نجاتهم وسلامة الآخرين. وهو ما ينطبق على بطلات الرواية الخمس اللائى يقررن خطف طائرة ركاب وتغيير مسارها ومسار حياتهن مهما كلفهن الأمر، هربا من الجحيم الذى يحاصرهن منذ سنوات.زهرة التى يحمل الكتاب اسمها كانت تعتقد أنه سيأتى اليوم الذى يرحل فيه السوفييت ويبقى الأفغان بما تعلموه، لكنها كانت مجرد سذاجة فتاة حالمة فى العشرين، أما الآن بعد أن جرى بها العمر أيقنت أن المعضلة دائما تكمن فيما يُخلفه الغزاة. خافت على ابنها وابنتها، من زيجة أولى، أن يدمرهما زوجها الحالى، بشير، رجل الأعمال الذى يشتغل بالتهريب والمقرب من الملالى، وعقدت العزم على أن تمسك بزمام القوة وتصبح «القائد زهرة»، هى التى تعلمت الملاحة الجوية والطيران فى موسكو قبل أن يصير ما صار وتختبئ كغيرها من النساء تحت برقع أو «البوركا» كما يطلق عليها. أراد الكاتب أن يدخل التجربة بنفسه وأن يشعر بإحساس السيدات وهن يرتدين هذا النوع من النقاب الذى يغطيهن بالكامل ليصف كيف يمكن التعاطى مع العالم من ورائه وقد فُرض عليهن فرضا من قبل طالبان. يصف حركاتهن وهن يشدون طرفى الشبكة الدقيقة التى تخفى وجوههن ليتمكن من الرؤية، كما شاهدهن فى الشارع خلال فترة عمله فى أفغانستان كمسئول إعلامى لدى الأمم المتحدة. كان يسجل أفكاره وملاحظاته ويحتفظ بدفاتره فى انتظار الوقت الذى سيتفرغ فيه للكتابة، وهو فى الأساس صحفى وباحث قبل أن يعمل لأكثر من عشرين سنة موظفا فى عدة مؤسسات دولية تختص بمجالات التنمية وحقوق الإنسان وحفظ السلام. ظلت قصة القائد زهرة ومثيلاتها من النساء تختمر فى رأسه لسنوات طويلة لأن النساء فى رأيه يعانين من ويلات الصراع أكثر من الرجال الذين يشاركون فى صنعه ويكونون على الأغلب متورطين فى العنف. يقترب منهن فى محاولة للكشف عن تفاصيل حكايتهن ولكن أيضا لرصد تحولات الواقع السياسى والاجتماعى للمنطقة من خلال أحداث الرواية، وهو ما جعل الأمر يختلف تماما عن طبيعة مؤلفاته ذات الطابع السياسى البحت مثل كتابه «من طالبان إلى طالبان» الذى نشره قبل ثلاثة أعوام. • • •هنا فى «القائد زهرة» نتابع تطورات الظرف السياسى بأعين الشخصيات المختلفة، فيكتب خالد منصور مثلا وهو يضع قصة زهرة وحبيبها وزوجها الأول زرياب فى سياقها التاريخى، شارحا التغيرات المفاجئة التى طرأت عليهما: «فى أقل من عامين انقلب كل شىء كأنما ضرب زلزال مروع وتوابعه المتلاحقة البلاد شبرا شبرا. انسحب الروس، وسيطر المجاهدون على قاعدة شندان ثم على البلاد كلها أو تقاسموها ثم تنازعوها فى حرب أهلية، تحلل الجيش الأفغانى تماما وتركت الصواريخ المنهمرة توقيعاتها المدمرة على معظم مبانى كابول، بينما تصارع قادة فصائل المجاهدين قرب العاصمة من أجل غنائم الحرب والسيطرة على أكبر بقعة ممكنة من الأرض». على هذا النحو نفهم بعض ما ألم بأفغانستان وتاريخها عبر العصور من انقلاب إلى انقلاب مرورا بالاحتلال الروسى والحقبة الشيوعية ثم طالبان ومن بعدها الغزو الأمريكى الذى أطاح بحكومة هؤلاء تحت زعم تفكيك تنظيم القاعدة المتهمة بتنفيذ تفجيرات 11 سبتمبر. يعتمد الكاتب السرد بطريقة «الفلاش باك»، أى إنه يقطع التسلسل الزمنى والمكانى ليستحضر ماضى الشخصيات المختلفة الموجودة على متن الطائرة، سواء من الخاطفين أو المختطفين، دون أن يخل ذلك بتدفق النص. على سبيل المثال، مع قدوم السوفييت، تحول بشير- زوج زهرة الفظ الغليظ - من طالب طموح يدرس الهندسة وشاب نزق يعزف على الجيتار إلى مجاهد شرس ثم مهرب شره ورجل ناقم وغاضب لا يتقبل السخرية. أما آسيا، والدة زهرة، كانت أستاذة جامعية تتقن الإنجليزية كأهلها، تحب زوجها الطبيب الرومانسى الذى يغنى لها أحيانا، قبل أن ينال منه الموت وتحاول هى الهروب من مرار العيش بتعاطى المواد المخدرة. • • •يطل علينا خالد منصور من وقت لآخر بملاحظات الصحفى والمراقب. يصف الأفغانيات اللائى طالما قابلهن وقد بدون «شائخات الجسد رغم أن أعمارهن لم تكن قد تعدت الثلاثين»، فالفقر والحرب كفيلان بأن يتغضن الجسد وتهرم الروح سريعا. كذلك حين يتعرض لشخصية الصحفى الأمريكى الموجود ضمن الركاب والذى يعرض على زهرة أن يرسل خبر الاختطاف لجريدته كى تعلم السلطات بما حدث وتدخل معهن فى مفاوضات للحفاظ على حياة الجميع، نلمح بعض خبرات المؤلف فى مثل هذه الأحوال، فقد برع فى تصوير ما حصل داخل قاعات الأخبار وكيفية تعاملها مع الموقف، وكذلك استطاع تخيل ردود فعل الجهات الرسمية الأمريكية وتباين مواقف الأجهزة المختلفة. نلمح أيضا فكرة تتكرر فى كتابات خالد منصور الأدبية والصحفية، وهى مسألة هزيمة الخوف المقوض، ثم العبور إلى الحرية بكل ما تتيحه من راحة مع الذات قبل كل شىء، لأنه أحيانا يكون الموت أفضل من الاستسلام لقدر جائر ومذِل. هذا الخوف قد يكون عدوا لعينا لكنه قد يصير حليفا مهما إذا استولى على الآخرين وتم استخدامه ضدهم كنقطة ضعف لتحقيق ما نصبو إليه، وهو ما اعتمدت عليه زهرة فى رحلتها من الخوف إلى الحرية.
مقالات اليوم حسن المستكاوي باريس.. الكرة الجديدة ضد الكرة القديمة! عبد الله السناوي أزمة الثقافة والمثقفين.. كلام عند الجذور عماد الدين حسين هل يتخلى ترامب عن نتنياهو؟ أيمن النحراوى حكم المحكمة الفيدرالية وتلجيم سياسات ترامب الجامحة قضايا يهودية ما الذى يدفع ترامب إلى الاستمرار فى تأييد إسرائيل؟ من الصحافة الإسرائيلية عملية «مركبات جدعون».. هل يتم تجاوز الخطوط الحمراء؟
قد يعجبك أيضا
شارك بتعليقك