فى مدينة تشيرنيهيف الحدودية مع روسيا شمال أوكرانيا، يوجد أحد فروع منظمة «أصوات الأطفال» Voices of Children لعلاج الأطفال من آثار الحرب عبر الفن.
عند وصولنا إليه بدأت صفارات الإنذار تُدوّى فى المدينة معلنة رصد غارة جوية. سارعت المشرفات على المركز بإخراج الأطفال لإرسالهم إلى الملجأ المُلاصق له. كان غريبا ومؤلما فى الوقت نفسه أن يكون أول لقاء لنا بهم كفريق صحافى، فى هذا الوقت تحديدا، وهم يعيشون سيناريو الحرب المتكرر الذى أصبح جزءا لا يتجزأ من حياتهم اليومية، ليقضى على جزء من طفولتهم.
ساد نوع من الصمت قبل أن تلوح فكرة لأحد أطراف المجموعة وهو صحافى فرنسى مقيم فى كييف. طلب من المترجمة أن تقول للأطفال إنه سيقدم لهم عرضاَ مُشوّقا. فجأة، توجّهت الأعين الصغيرة نحوه وهو يحاول القيام ببعض الخدع السحرية. ثم سرعان، ما انطلقت الضحكات من أفواه الأطفال لتُلطّف الأجواء. بعدها، بدأنا بتعريفهم بأسمائنا والبلدان التى جئنا منها، وطلبنا منهم أن يفعلوا الأمر نفسه. غنينا لهم أغنيات من أوطاننا وغنوا لنا النشيد الوطنى بكل حماسة. شعرنا بأننا ساهمنا إلى حد ما فى تخفيف آثار الحرب عليهم من دون أن نذكرها بشكل صريح. فاجأنا فضولهم وحماستهم لوجود صحافيين أجانب معهم.
يدفع الأطفال فى أوكرانيا غاليا فاتورة الحرب، سواء من خلال فقدان أحد أفراد العائلة، أو قضاء أوقات طويلة داخل الملاجئ تحت الأرض أو الاضطرار إلى التنقل من مدينة إلى أخرى. لذلك تحاول السلطات الأوكرانية بالتعاون مع المجتمع المدنى إيجاد حلول لتخفيف آثار النزاع عليهم عبر استعمال طرق علاجية عديدة، أهمها الفن.
لا شك فى أن الأطفال الذين قابلناهم عاشوا تلك الأحداث وأنها تركت أثرا ما على طفولتهم المسلوبة. لهذا قرر أهاليهم أن يأتوا بهم إلى هذا المركز لعلاجهم عبر استخدام الفن، وذلك من خلال تنظيم ورشات رسم وأشغال يدوية، إلى جانب تخصيص حصص استماع للتعبير عن مخاوفهم وهول ما عاشوه.
أثارت انتباهنا الرسوم والألوان الجميلة التى كانت تزين القاعة الرئيسية حيث عُلقّت الصور التى رسمها الأطفال. فى وسط القاعة، كانت هناك طاولة كبيرة وُضعت عليها أوراق وألوان مائية ورُسمت عليها بعض الرسوم. كان واضحا أن هذا هو المكان الرئيسى المخصص للقيام بمختلف الأنشطة الفنية.
فى تعريفها لمهمتها نقرأ على موقع منظمة «أصوات الأطفال» أنه «لا ينبغى أن يبقى أى طفل وحيدا أمام تجربة الحرب، لذلك تعمل المنظمة على «مساعدة الأطفال على السيطرة على ما يحدث فى حياتهم وعدم الاعتماد على الدعم كل الوقت». وتتمثل أولويتها فى «تقديم الدعم النفسى الشامل على المدى الطويل للطفل، لفهم احتياجاته بشكل كامل والعمل على الوقاية من اضطراب ما بعد الصدمة والتعامل مع عواقب الحرب».
عادة ما يكون الأطفال الذين يتم توجيههم إلى المنظمة من أولئك الذين أمضوا وقتا طويلاً فى الملاجئ أو الذين عاشوا تجربة الهروب من النزاع فى المناطق الساخنة أو الذين أُصيبوا أثناء الحرب. بالتالى، تكون مهمتنا «إخراجهم هم وأهاليهم من حالة الصدمة عبر الالتقاء بهم بصفة دورية والاستماع إليهم، وتوفير نوع من الاستقرار العاطفى والأمان لهم»، تؤكد أولكساندرا هيريشنكو منسقة المنظمة فى تشيرنيهيف.
• • •
تصادف وصولنا إليه مع إطلاق صفارات الإنذار المعلنة عن انطلاق غارة جوية جديدة على العاصمة الأوكرانية. سارعنا بالدخول إلى الملجأ أسفل مستشفى أهماتديت Ohamatdyt، حيث وجدنا بعض المرضى والأطباء.
قابلنا هناك نائب رئيس قسم الجراحة الدقيقة فاليرى بوفكون، الذى كان حاضرا عندما قُصف المستشفى «عندما ضربت القذيفة المبنى كنت فى قاعة العمليات، شاهدت زجاج النوافذ وهو ينكسر وتدمير جزء من الجدران. حاولت المساعدة فى إخراج المرضى وإرسالهم إلى الملجأ ولاحظت فى طريقى أن العديد من الأطفال أصيبوا، كما جُرح أحد زملائى الأطباء وقمنا بنقله بسرعة إلى قسم الجراحة»، يتذكر الطبيب.
رغم جهود إعادة إعمار المستشفى التى رصدت لها الحكومة الأوكرانية مبلغ 9.6 ملايين دولار حسب ما أعلنه الرئيس الأوكرانى، إلا أنه ما زال يحمل آثار الدمار، حيث يمكن الملاحظة بالعين المجردة النوافذ المكسورة والجدران المدمرة والسيارات المحروقة.
بينما كنا نعاين حجم الدمار الذى خلفته القذيفة، اعترضت سبيلنا امرأة هى وابنها كانت خارجة من المستشفى، وتبيّن أنها كانت موجودة وقت قصفه فى يوليو المنقضى.
يومها كانت هانا تريشنكو ترافق ابنها إيفان ذا ال14 عاما إلى المستشفى لإجراء بعض الفحوصات كونه يعانى من مشاكل فى الكلى.
لم تعد بعدها هانا وابنها إلى المستشفى إلا فى اليوم الذى التقيناها فيه، وصادف أنه كان هناك مرة أخرى إنذار بانطلاق غارة جوية على كييف. أيقظ ذلك ذكريات حزينة داخلها.
على عكسها، بدا إيفان ابنها متحمسا لرؤية الصحافيين يتحلقون حوله لمعرفة قصته، وهو يحاول أن يكلمهم بالإنجليزية التى تعلمها عبر اليوتوب والألعاب الإلكترونية، وأتقنها أكثر عندما جاءت منظمة أمريكية للعمل فى مركز اللاجئين الذى يعيش فيه.
• • •
تترك الحرب آثارا نفسية كبيرة على البالغين لا تُمحى بسهولة برغم مرور الزمن ولكن ماذا عن الأطفال؟
يقول الطبيب النفسى فى مستشفى أهماتاديت للأطفال أندرى هورا إنه يعاين العديد من الحالات لأطفال مصابين باضطرابات نفسية، من قبيل القلق واضطرابات النوم وفقدان الشهية والميل إلى العزلة وآثار ما بعد الصدمة. ويزيد تمدد الصراع الذى طال أكثر من سنتين ونصف السنة فى انتشار هذه الاضطرابات.
ويضيف «عندما حصل العدوان على المستشفى، حاولنا سريعا الاهتمام بالأطفال والتواصل معهم لتخفيف آثار الهجوم عليهم، ونقلنا بعضهم إلى مستشفيات أخرى كى يتمكنوا من تلقى العناية اللازمة». لكنه يدرك أن المهمة تحتاج إلى وقت، ولحسن الحظ حسب قوله، فإن عقل الطفل أكثر مرونة من عقل البالغ وقدرة على تجاوز الأزمات، مما يسهل عملية العلاج.
• • •
من أكثر الأساليب التى يتم استعمالها للتخفيف من الآثار النفسية للحرب على الأطفال هى دعوتهم للرسم، لأنه يسمح لهم بالتعبير عن أحاسيسهم. وقد أرانا الطبيب مجموعة من الرسوم التى كانت تحفل بأعلام أوكرانيا وألوانها. كان فى البعض منها احتفاء بالنصر وكان البعض الآخر يعكس النفسية الحزينة للأطفال، من خلال تجسيد أشخاص بدون مأوى أو رسم البيوت التى لم يعد ممكنا العودة إليها.
يُعلمنا الطبيب النفسى أن هذه الرسومات لا تبقى حبيسة المستشفى، إنما يتم عرضها فى معارض متنقلة داخل أوكرانيا وخارجها.
نغادر المكان وفى القلب حسرة على هذه الطفولة التى تمت التضحية بها على مذبح الحروب والنزاعات.
حنان زبيس
موقع درج