x قد يعجبك أيضا

اختفاء متحف وجمعية الحشرات

الأربعاء 27 أغسطس 2025 - 8:20 م

فى رحلة بحث عن تاريخ العلم فى مصر المعاصرة، قادتنى قدماى إلى متحف وجمعية الحشرات فى القاهرة وذلك فى ثمانينيات القرن العشرين، فذهبت إلى مقر المتحف والجمعية فى شارع رمسيس فى مقابل نقابة المحامين، حيث كانت توجد يافطة بارزة فى الطابق الأول علوى تشير إلى مقر الجمعية، ومنذ أشهر قليلة أثار فضولى اختفاء اليافطة، وحاولت السؤال عن سر هذا الاختفاء، فذهبت إلى البناية التى يحتل طابقها الأرضى أكاديمية السادات للعلوم الإدارية، فكانت المفاجأة أن الجمعية لا يوجد أحد من العاملين بها، بل إن الطابق الذى تشغله الجمعية مغلق منذ سنوات.

عزيزى القارئ: قد يبدو الموضوع المطروح أعلاه غير ذى أهمية فى مصر، مع تراجع الاهتمام بالعلم والعلماء، لكن فى حقيقة الأمر أنه شديد الأهمية بل يؤشر على ما نحن ذاهبون إليه، فى مصر كان هناك حركة علمية مبكرة توطن العلم بكل فروعه وتراه أداة للنهوض، وهذا أنتج الجامعة المصرية، وبالتوازى جمعيات علمية، كان منها جمعية الحشرات التى أنشأها فى عام 1907 مجموعة من الأخصائيين فى علم الحشرات من موظفين فى الحكومة وغيرهم، وللعلم كانت هذه الجمعية خامس جمعية على الصعيد الدولى بعد جمعيات فرنسا وبريطانيا وكندا والولايات المتحدة وكانت تعقد جلساتها فى مقر المجمع العلمى المصرى، فى أعقاب ثورة 1919م، كانت مصر الناهضة الصاعدة مع حصولها على الاستقلال المنقوص بعد تصريح 28 فبراير 1922، وإعلان الملك فؤاد الاستقلال فى 14 مارس، كان العلم هو أداة مصر للنهوض فى جميع المجالات، بما فيها الحشرات، لذا تبنى الملك فؤاد هذه الجمعية مع غيرها، فأكسبها لقب الملكية، وكان رئيسها يعين بقرار ملكى، وخصص لها قطعة أرض مساحتها 1015 مترا مربعا ليشيد عليها مقرا للجمعية من طابقين على الطراز الكلاسيكى المتأخر، جمع الملك فؤاد لها أربعين ألف جنيه مقابل منح الباشوية لأربعة متبرعين، تم تخصيص 26 ألفا لتشييد المبنى وتأسيسه، وتجنيب 14 ألفا كوديعة بنكية للصرف على الجمعية، ضمت مكتبة بها 25 ألف مجلد حتى عدت هذه المكتبة لوقت قريب من أهم مكتبات الشرق الأوسط فى مراجعها التى هى الأساس لأى باحث فى هذا المجال ولهواة الحشرات، أصدرت الجمعية مجلة مصورة علمية كانت فريدة فى نوعها، وكان مستواها الأكاديمى لا يقل عن مثيلتها فى العالم، حتى صارت تطلب من المؤسسات الأكاديمية والمكتبات الجامعية وكليات العلوم فى جميع أنحاء العالم لكونها مرجعا لا غنى عنه فى مجال الحشرات، فإلى العدد 80 كانت المجلة نشرت 8000 صفحة، كانت قاعات الجمعية تعج بالمحاضرات وأقبل عليها الجمهور، كان للجمعية مشاريع بحثية خاصة بسلوك الحشرات، وأخرى ترصد الآفات الحشرية التى تدمر المحاصيل الزراعية، وأخرى للحشرات الناقلة للأمراض، جمعت الجمعية 70 ألف عينة حشرية تمثل 4 آلاف نوع من الحشرات من بيئات مختلفة من مصر ولبنان والسودان وليبيا وإنجلترا، وأنشئ بها متحف للطيور المحلية، هذه المجموعة هى التى تشكل متحف الحشرات فى جمعية الحشرات المصرية، والتى هى ملاذ طلاب كليات العلوم والزراعة فى مصر، بل حتى الباحثين العرب والأجانب كانوا يعتبرونها مرجعا أساسيا لهم، ولمن لا يعرف فالنحل من الحشرات وله عشرات الأصناف وعائده على اقتصاد أى بلد يهتم به كبير، وهناك من الحشرات المفيد فى تغذية الأرض الزراعية ومنها ما يستخدم لأغراض طبية.

كارثة الإغلاق

فى شهر يوليو 2015 حدث انفجار ارهابى عنيف عند القنصلية الإيطالية فى شارع الجلاء خلف مبنى الجمعية، وهو ما أدى إلى تدمير نوافذ الجمعية وتدمير الفتارين فى متحفها، لكن أيضا تأثر سقف الجمعية، ومنذ ذلك التاريخ والبناية أغلق طابقها العلوى بعد أن تعرض لمخاطر عديدة، لكن لم يتحرك أحد لإعادة الحياة لهذا الطابق، وبالتالى لم يعد للجمعية وجود، ستسألنى عزيزى القارئ، أليست بناية الجمعية مكونة من طابقين، سأرد عليك بأن بناية الجمعية تم احتلالها من قبل البعض، ففى عام 1981م أسست أكاديمية السادات للعلوم الإدارية لتأخذ من الطابق الأرضى والبدروم مقرا لها، وتنحصر جمعية الحشرات فى طابقها العلوى، ومنذ هذا التاريخ لم تغادر الأكاديمية المبنى بالرغم من تعدد مقراتها وتوسعتها وإمكانياتها المادية التى تفوق جمعية الحشرات كثيرا، بل تجاهلت حتى التبرع لترميم الطابق العلوى بل صرفت جل اهتمامها بالطابق الأول، وقد حان الوقت ليعود الطابق الأرضى والبناية بالكامل لجمعية الحشرات، بل حان الوقت لتحرك وزارة التضامن الاجتماعى ركود جمعية الحشرات بأن تسعى لدى الدولة بإصلاح ما أفسدته يد الإرهاب بتفجير القنصلية الإيطالية، كما حدث من ذى قبل مع بناية المجمع العلمى المصرى، كما أن وزارات البحث العلمى (أكاديمية البحث العلمى) ووزارة الزراعة معنية بشأن هذه الجمعية العلمية، وعليها أن تسعى إلى إعادة مجد هذه الجمعية.

إن الوقت حان لأن يكون فى مصر متحف للتاريخ الطبيعى يضم مجموعة متحف الحشرات، على غرار متاحف لندن ونيويورك التى هى الأكثر إقبالا من طلبة المدارس والجامعات والسياح.

بل حان الوقت لكى نصحح وضع الجمعيات العلمية فى مصر فلا يعقل أن تتبع وزارة التضامن الاجتماعى، وهو ما يعوق برامجها العلمية والبحثية ونهوضها وأنشطتها، فهى تعامل كجمعيات دفن الموتى ورعاية الأرامل، وهذا مجال والمجالات العلمية مجال آخر، ففى العديد من البرامج البحثية الدولية فقدت مصر فرصها للمشاركة بسبب عقبات قانونية، مثل مشروع موسوعة الحياة الذى شاركت فيه العديد من الدول، بل إن الجمعية المصرية للرياضيات كادت أن تفقد عضويتها فى الاتحاد الدولى للرياضيات بسبب عدم سداد اشتراكها فى الاتحاد، إن الاحتكاكات الدولية عبر الجمعيات العلمية إحدى أدوات النهوض العلمى والمشاركات الفاعلة فى تبادل الجديد فى العلم، وكان هذا سببا فى استضافة مصر المؤتمر الجغرافى الدولى عام 1925م عن طريق الجمعية الجغرافية المصرية، وهذا المؤتمر الذى مر على استضافته فى مصر مائة عام لا نرى الآن أى أثر لاستعادة هذا المجد المفقود، إلا أن ما آلت إليه الجمعية الجغرافية المصرية هو التراجع عما كانت عليه منذ قرن حين كانت على الصعيد الدولى يشار إليها بالبنان، حتى عقد أول مؤتمر جغرافى دولى فى إفريقيا فى مصر، من هنا كانت الريادة لمصر، ومن هنا شيدت قوتها الناعمة وقدراتها العلمية.

مقالات اليوم

قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك

بوابة الشروق 2025 - جميع الحقوق محفوظة