إسماعيل فهد.. فداحة الغياب

الثلاثاء 25 سبتمبر 2018 - 9:40 م

حين يذهب صحفى لبلد للمرة الاولى يضع قائمة بالأسماء التى ينبغى ان يلقاها لفهم ما يجرى حوله، فلكل بلد مفاتيحه أو رموزه التى تدل عليه وتساعد فى فهم شفرته وبالنسبة لمحرر ادبى مثلى كان اللقاء مع محمد الماغوط مفتاحا لفهم دمشق فى اول زيارة. كما ان قراءة محمد خضير وفؤاد التكرلى مسارا للوصول لقلب العراق.
وبالمثل كان الروائى اسماعيل فهد اسماعيل بابا لابد من طرقه فى اول زيارة ذهبت فيها للكويت قبل عدة سنوات
لان مكانته هناك لا تقل عن مكانة نجيب محفوظ فى مصر، فالجميع يعتبره المؤسس الحقيقى للرواية الكويتية، لا احد يختلف على دوره التأسيسى، كما لا يختلف احد على نبل بالغ احاط بصورته.
وقبل الزيارة حدثتنى الصديقة الغالية عطيات الابنودى التى تمر بمحنة المرض عن صداقات وثيقة جمعت اسماعيل بجيل الستينيات فى مصر وكانت تتحدث بحماسها المعهود عن حبه للقاهرة التى ظهرت كفضاء مكانى فى العديد من رواياته، وربما بفضلها عرفت اسمه لأول مرة وأعارتنى رواياته قبل السفر.
وقبل ان ابحث عنه فى الكويت التى لم يكن لُى فيها أصدقاء دخل هو بهو الفندق الذى أقمت فيه ودعا كل من وجدهم من المبدعين لحضور ملتقى الثلاثاء الذى كان يعقد فى مكتبه وحين دخلنا معه وجدت فى الجلسة اغلب كتاب الكويت بالاضافة لمن يعملون فيها من المبدعين الوافدين على اختلاف جنسياتهم.
كانت الجلسة ورشة قراءة كبيرة وهو فيها ليس سوى راعٍ من رعاة الأمل يتحدث ببساطة وعمق دون ادعاء أو توجيه أو تسلط، ترسخت صورته فى تلك الليلة مثل حكيم بوذى.
وما لفت نظرى إلى جانب حديثه العذب ذائقته التشكيلية العالية التى جعلت من مكتبه متحف مصغر امتلأت جدرانه بلوحات لفنانين عرب كبار من اجيال مختلفة ولعل الإيمان بفضيلة التنوع والتجاور كان إحدى ابرز القيم التى دافع عنها حتى رحيله امس وهى مسالة يمكن إدراكها بسهولة من عبارات الوداع التى شيع بها من قراء واصدقاء وتلاميذ، ففى كل اللقاءات التى جمعتنى بالصديق طالب الرفاعى عبر سنوات كان اسماعيل يحضر بين كل جملتين فهو المرشد الذى قاد الرفاعى لعالم الكتابة
دور لا يختلف كثيرا عن الدور الذى اداه الراحل فى حياة الصديق سعود السنعوسى الذى من فرط إيمانه بقيمة معلمه الاول جعله فاعلا روائيا فى الرواية الشهيرة.
(ساق البامبو)
المدهش اكثر ان أفضال المعلم تكررت فى سياقات اخرى بعيدة عن الكتابة الأدبية فالمخرجة الفلسطينية ليالى بدر قالت لى ذات مرة انها تدين بفضل تكون ذائقتها الأدبية لإسماعيل الذى علمها فى الكويت كيف تختار ما تقرأ، اما صديقى الشاعر محمد النبهان فقد قالها لى صراحة فى اخر لقاء جمعنا فى القاهرة: (تغيرت الكويت كثيرا بعد ان فقدنا ملتقى الثلاثاء).
وفِى القاهرة ايضا كان لقائى الاخير بإسماعيل الذى شرفنى باختيارى لمناقشة روايته (على عهدة حنظلة) فى دار العين
وأكثر ما ركزت عليه ليلتها طغيان الشعور بنبرة الرثاء فى النص وتساءلت: أى مرثية يقدمها الكاتب: هل هى مرثية لرسام الكاريكاتور الفلسطينى الراحل ناجى العلى أم للأيام التى عاشها فى الكويت وكانت حافلة بالأحلام الكبيرة وكانت العروبة عنوانا لها؟ وأخيرا: أين اختبأ الكاتب داخل نصه ووراء أى قناع من أقنعة السرد يمكن العثور عليه؟. فما نعيشه عبر عملية القراءة ليس سوى مناجاة يقدمها السارد مع بطله خلال محنة الموت السريرى مستعيدا قناع «حنظلة» الأيقونة التى خلَدها الرسام وتبدو للناظر كظلال للشخصية الرئيسة الذى يذكر باسمه (ناجى) أو «قرين» يتحول فى النص إلى شاهد وشريك فى إبراز محنة علاقة الفنان أو المثقف بالسلطة فى أشكالها المختلفة.
اليوم وبعد غياب اسماعيل محتفظا بالنقاء الذى رافقه ستفقد الكويت قطعة من قلب رحمتها التى كانت.
وسيشعر أصدقائى المصريين فيها أمثال ابراهيم فرغلى وشريف صالح ومهاب نصر وأيمن بكر بفداحة هذا الغياب على ارواحهم لان من مات لم يكن مجرد كاتب بل كان أنيسا وجليسا لا يعوض.

مقالات اليوم

قد يعجبك أيضا

بوابة الشروق 2024 - جميع الحقوق محفوظة