«القوة الناعمة».. أبرز عوامل «الهجرة إلى الشمال»
الخميس 24 أبريل 2025 - 7:15 م
أبدأ من السؤال الآتى: ماذا يحصل فى الطابق السفلى (الدول النامية)؟ ما هى طموحات مكوناته؟ بالتأكيد طموح هؤلاء هو الارتقاء إلى الطابق الأعلى (الدول المتقدمة) ودخول حلقة الحداثة التى تنعم بالرفاهية والأمن والأمان، وثمة أمثلة كثيرة مثل كوريا الجنوبية وغيرها من الدول التى تسعى للانتقال إلى الطابق الأعلى. وبين السعى والوصول هناك درجات متفاوتة ولعل النقطة الأهم لتأكيد النجاح تتمثل فى تجاوز نقطة «اللاعودة»، أى الحصول على تأمين مستقبلى، أمنيا وعسكريا وغذائيا واقتصاديا واجتماعيا.. والأمثلة عديدة وأقربها إلينا دول مثل قطر والإمارات وتركيا وأبعدها عنا ماليزيا وإندونيسيا إلخ..
هذا الطموح بالارتقاء إلى الأعلى هو طموح معظم شعوب الطابق الأسفل وليس طموح حكامهم أو حكوماتهم برغم فيض التصريحات وخطط النمو وسياسات الانفتاح إلخ..
ما الذى يعرقل هذه الطموحات؟ الجواب بسيط: إنها القوة الناعمة (Soft power) وبالطبع «القوة الناعمة» تمثلها مكونات الطابق الأعلى وتعد بمثابة سلاح تدمير شامل يمنع مكونات الطابق الأسفل كدول من الارتقاء ولكن يترك فسحة (ضيقة) لمواطنيها لكى لا تغادر حلم الانتقال إلى الطابق الأعلى، وعندما تتحقق مثل هذه الأحلام تكون الهجرة قد فعلت فعلها فى هذه الشعوب..
• • •
تستهدف «القوة الناعمة» ما كان حتى الماضى القريب يُشار إليه بمصطلح «العالم الثالث»، وذلك منذ ١٩٥٢ (مؤتمر باندونج) ويشمل جميع بلدان القارة الإفريقية أو الآسيوية أو الأوقيانوسية أو الأمريكية التى تفتقر إلى التنمية. ولكن هذا المصطلح عفا عليه الزمن وحلّ محله تعبير «الدول الأقل نموا». «القوة الناعمة» هى مجموعة عوامل تترك تأثيرها وأشار إليها جوزيف ناى (Joseph Nye) عام ١٩٩٠، وهو عالم سياسى ومفكر أمريكى، وأستاذ فى العلاقات الدولية. جاءت نظريته فى كتاب يمكن ترجمة عنوانه كما يلى «من لوازم القيادة: الطبيعة المتغيرة للقوة الأمريكية (Bound to Lead:The Changing Nature of American Power). يُقدّم جوزيف ناى تعريفه لمفهوم «القوة الناعمة» بأنه يتمثل فى قدرة الدولة على الإغواء والإقناع، من دون الاعتماد على القوة أو الإكراه. ويمارس هذا التأثير على الفاعلين الآخرين لدفعهم إلى التفكير بطريقة مماثلة أو تغيير سلوكهم بطريقة لطيفة وغير مباشرة.
هذا من حيث المبدأ إلا أن ناى طوّر نظريته فيما بعد ولحق به العديد من المفكرين الذين بسّطوا هذا التعبير الذى ينسحب على كافة أنشطة الإنسان ولعل أهمها النشاط الاستهلاكى بأوجهه كافة. الأمثلة عديدة ومتعددة لعل أبرزها الملابس وخصوصا الـ «جينز» وديكورات المنازل إلخ.. والتى حملت ثقافتها سينما هوليوود التى وُصفت بأنها القوة الضاربة الأولى على طريق نشر نمط الحياة الأمريكى.
ومع دخول العالم فى عصر التواصل والاتصالات والذكاء الاصطناعى وتمدد عنكبوت الإنترنت، بات من السهل أن تدخل «القوة الناعمة» إلى كافة المنازل والعقول من دون أى حاجز أو رادع. لا بل بات يُمكن للأفراد الانطواء على نفسهم والانزواء وبناء تصورات وأحلام تدور حول ما تبثه لهم تلك «القوة الناعمة».
«القوة الناعمة» هى من أبرز مواهب «الهجرة نحو الشمال»، حتى وإن كانت بعض الدراسات تبين أن الضغط الاقتصادى أو المناخى أو حتى انعدام الأمن الجسدى كلها من عوامل الهجرة إلا أن هذه العوامل تجرى فى التيار الفكرى الذى بنته «القوة الناعمة».
• • •
بشكل عام، تعد الولايات المتحدة والمملكة المتحدة أكثر دول «القوة الناعمة» تأثيرًا فى العالم، ومنذ سنوات تعتمد بعض الدراسات على أرقام ومؤشرات النمو للإشارة إلى الصين كمصدر للقوة الناعمة، متجاوزة اليابان. فى الواقع يلعب البُعد الجغرافى دورا فى بناء طموحات الجماهير الراغبة بالانتقال من الطابق الأسفل إلى الطابق الأعلى، وهذا ما يجعل أوروبا هدفا للهجرة من إفريقيا وآسيا، كما هو الحال مع أمريكا اللاتينية والولايات المتحدة وكندا.
وبرغم أننا نعيش فى عصر يتسم بعدم اليقين وعدم الاستقرار على المستوى العالمى، بحيث تساهم المعايير الاقتصادية بشكل متزايد فى «القوة الناعمة» لأى دولة؛ وبرغم التقدم التكنولوجى المعتمد على تسارع النمو الاقتصادى للصين، فهى ليست هدفا فى لا وعى الراغبين فى الهجرة بشكل عام لأن «القوة الناعمة» التى تبثها مبنية على نمط حياة ومجتمع خاص جدا ومتميز تاريخيا. وكذلك الحال بالنسبة لدول مثل اليابان وكوريا وحتى فيتنام.
• • •
فى بعض الدول التى حققت نموا اقتصاديا وماليا مثل دول الخليج (الإمارات وقطر والكويت) يلعب البعد الجغرافى عاملا معاكسا: فالهجرة نحو تلك الدول تبدو وكأنها هجرة مرحلية بانتظار العودة إلى الأوطان بالنسبة للشعوب العربية ولا سيما من أبناء الدول المجاورة. ومن الأسباب أيضا نمط حياة قابل للتطور والانفتاح. كما أن أحد أبرز الكوابح هو صعوبة الحصول على جنسية تلك الدول، وفى حال حصول المهاجرين على الجنسية، فإن القوانين لا تحميهم من إمكانية نزعها، بعكس أوروبا والولايات المتحدة وكندا واستراليا.
كما هو ظاهرٌ تنحصر طموحات الهجرة والسعى للانتقال إلى العيش بكنف الطابق الأعلى بالمواطنين وليس بالضرورة بالطبقات الميسورة ولكن هذه الرغبات تجتاح كل شرائح المجتمعات فى عالم «الدول الأقل نموا». الواقع أن هؤلاء يهربون من بطش الأنظمة وغياب الشفافية والعدل. فى بعض الأحيان تستعمل حكومات دول الجنوب (ليبيا وتونس وتركيا ودول الساحل الإفريقى) مسألة الهجرة كسلاح فى وجه الدول الغنية ولا سيما الأوروبية. هذه الهجرة تثير جدالات تطرح أسئلة الاندماج والهوية لدى يمين يتصاعد حضوره فى عالم الدول الغنية (أمريكا وفرنسا وإيطاليا وهولندا وألمانيا والدنمارك وبريطانيا والنرويج والسويد)، علما أن هذه الدول ترحب بـ«زوار الجنوب» الآتين لصرف أموالهم فى اقتصاد تشكل السياحة بندا مهما فى ميزانياتها.
• • •
حتى النوع السياحى الأخير ليس خارج النقد والانتقاد وبخاصة فى أوروبا حيث يُخفى اللاوعى الأوروبى نظرة استعلائية إزاء شريحة الطبقة العاملة الآتية من الجنوب التى لا تستطيع تحمل أكلاف سياحتها الأوروبية «كما يراها الغرب»، أى فنادق ومطاعم بل ينزلون فى مخيمات أو فى شقق مُستأجرة عبر (Airbnb) . هنا مرة أخرى، يتعلق الأمر بالالتفات إلى الازدراء الطبقى، أى يرون أن أولئك السياح يفتقدون إلى ثقافة وسياحة الطبيعة والبيئة ويكتفون بمراكز الترفيه فى ضواحى المدن الأوروبية!
هذه السياحة المفرطة القادمة من الطابق الأسفل تعتدى بنظر الغربيين على الطابع الديموقراطى للسياحة، أى الذهاب فى إجازة والتنزه فى الجبال، وزيارة مواقع لا تتحدث عنها كتب الإرشاد السياحى التى توزع فى الجنوب. نقد الطابق الأسفل يشمل الصينيين والهنود والباكستانيين وكل الآتين من آسيا الوسطى إضافة إلى العرب والأفارقة؛ هؤلاء الذين يعتقدون بأن العولمة تسمح لهم بتقليد ما بثته فى عقولهم «القوة الناعمة» الآتية من الغرب تحملها إليهم الأفلام والمسلسلات.
بسام خالد الطيّارة
موقع 180
النص الأصلى:
مقالات اليوم
قد يعجبك أيضا