ذكرت عبارة «الحاسبات فائقة السرعة» مرات عديدة فى مقالات سابقة وفى سياقات مختلفة، فى مقال اليوم أحب أن أرتب «قطع البازل» معا حتى نرى الصورة الكاملة لهذا النوع من أجهزة الكمبيوتر ونتعرف على أهميته لكل الدول، المتقدمة منها والنامية. لنبدأ أولا بإزالة اللبس حول معنى «حاسبات فائقة السرعة»، لأنها لا تعنى مجرد لابتوب سريع، بل إنها أجهزة أسرع من عدة آلاف من أجهزة اللابتوب مجتمعة وتكلفتها أعلى بعدة آلاف من المرات أيضا، فهل نحتاج هذه الأجهزة؟ ومن يصنعها؟ وكيف نستخدمها؟
هناك دراسات عديدة تشير إلى تزايد حجم سوق هذا النوع من الأجهزة ليصل حجمه إلى أكثر من مائة مليار دولار بحلول العام 2028، وهذا إن دل على شىء فإنه يدل على أهمية هذه الأجهزة. بل ويمكننا اعتبار هذه الأجهزة سلاحا استراتيجيا، الدولة التى تمتلك أجهزة أقوى (أى أسرع فى حالتنا هذه) فإنه يكون لها اليد العليا على الدول الأخرى فى الحروب السيبرانية أى التى تدور رحاها على الإنترنت، وهى نوعية الحروب التى أصبحت الأكثر خطورة فى عصرنا الحالى، لأنه بمقدور الدولة الأقوى أن تخترق حسابات الدول الأضعف وتحصل على أسرارها أو تسيطر على بنيتها التحتية، بل وتدمرها فى بعض الحالات. ليس هذا فقط، بل إن تلك الأجهزة تساعد على تصميم أسلحة أكثر تقدما وبالتالى هى عظيمة الأهمية فى الحروب التقليدية أيضا.
لكل ذلك فهناك مؤسسة تقوم بحصر أقوى 500 جهاز فى العالم وتنشر تلك المعلومة مع الكثير من الإحصائيات مرتين فى السنة، فى شهرى يونيو ونوفمبر، منذ عام 1993 وحتى الآن، ويمكنك عزيز القارئ أن تجد تلك القوائم على الرابط (top500.org). إذا تأملنا تلك القوائم فى السنوات العشر الماضية سنجد أن المركز الأول لم يخرج عن أمريكا أو الصين أو اليابان. أمريكا تمتلك نصيب الأسد من عدد الأجهزة التى تظهر فى القائمة الحالية ومنها جهاز فى المركز الأول. الصين احتلت المركز الأول منذ 2012 وحتى حوالى 2020، لكن ما أهمية تلك الأجهزة؟
...
أجهزة الكمبيوتر فائقة السرعة (supercomputers) يمكن استخدامها فى كل مجالات النشاط البشرى تقريبا، على سبيل المثال:
• عن طريق برمجيات المحاكاة يمكن استخدام تلك الأجهزة فى تصميم أسلحة أكثر تطورا كما أشرنا سابقا وفى وقت أقصر بكثير من الطرق التقليدية.
• تساعد تلك الأجهزة على تصميم الأدوية، ويجب ألا ننسى أن الخطوة الأولى فى إيجاد لقاح للكوفيد كانت استخدام تلك الأجهزة لإيجاد مركبات كيميائية قد تصلح أن تكون لقاحا، شركات الأدوية أخذت تلك النتيجة وبدأت تجاربها الخاصة حتى ظهرت اللقاحات التى استخدمناها.
• تساعد تلك الأجهزة على تحليل كميات مهولة من البيانات للوصول إلى استنتاجات مفيدة، وهذه ميزة نحتاجها بشدة فى عصر البيانات الضخمة الذى نعيش فيه.
• بدون تلك الأجهزة لم نكن لنسمع عن الذكاء الاصطناعى وتعليم الآلة ولظلت تلك التكنولوجيات حبيسة الأوراق العلمية. الخطوة الأولى فى برمجيات تعليم الآلة هى خطوة «التعليم» وهى تحتاج أجهزة فى منتهى القوة، عكس الخطوة الثانية وهى الاستخدام والتى يمكننا الوصول إليها بأجهزة كمبيوتر عادية أو حتى التليفون المحمول.
هذه الاستخدامات هى غيض من فيض ونستطيع أن نملأ صفحات كثيرة بقائمة الاستخدامات، هذا غير ما سيظهر فى المستقبل. نأتى إلى سؤال مهم: من يصمم ويصنع تلك الأجهزة؟
...
عدد الشركات التى تقوم بتصميم وتصنيع تلك الأجهزة ليس كبيرا لأن هذا يحتاج شركات عملاقة إما تقوم بتصنيع الرقائق بنفسها أو لها تعاملات مع شركات تصنيع الرقائق مثل (TSMC)، أجهزة الكمبيوتر العملاقة هذه تحتاج ملايين من رقائق الكمبيوتر (chips) وليس كل الشركات حتى العملاقة قادرة على تصنيع هذا العدد.
من الشركات الكبيرة فى مجال تصميم أجهزة الكمبيوتر فائقة السرعة نجد:
• شركة أى بى إم وهى من أقدم الشركات فى هذا المجال وكانت تصنع عائلة من أجهزة الكمبيوتر فائقة السرعة تسمى (Blue Gene) وقد حصلت مصر على بعض تلك الأجهزة من قبل. أما الآن فإن شركة أى بى إم فى حالة اقتصادية سيئة وقد توقفت عن تصنيع تلك العائلة من الأجهزة منذ عدة سنوات وتشترك فقط فى بعض المشروعات المتعلقة بتلك الأجهزة مع وزارة الطاقة الأمريكية. جدير بالذكر أن أغلب تلك الأجهزة العملاقة فى أمريكا يتم تمويلها من وزارة الطاقة وليس وزارة الدفاع كما قد يتبادر إلى الذهن.
• شركة (HPE) أصبحت من أكبر الشركات فى هذا المجال خاصة بعد أن استحوذت على شركة (Cray) من أقدم الشركات التى تقوم بتصميم تلك الأجهزة.
• شركة (Dell) وقد وسعت نشاطها من الأجهزة العادية إلى الأجهزة فائقة السرعة.
• شركة (NVIDIA) وهى الآن من أكبر وأقوى شركات تصميم الأجهزة فائقة السرعة، وهى الشركة الأولى فى العالم فى تصميم الرقائق المستخدمة فى تطبيقات الذكاء الاصطناعى.
القائمة أطول من ذلك لكن هذه عينة توضح حجم الشركات التى تدخل هذا المجال، طبعا تلك الشركات لا تكتفى بالتصميم، ولكن تقدم حلولاً استشارية وبرمجيات تعمل على تلك الأجهزة، وهذا يأخذنا إلى سؤال البرمجيات: هل هذه الأجهزة يمكن برمجتها بالطرق التقليدية التى يتم تدريسها فى أغلب الجامعات؟
...
برمجة تلك الأجهزة مختلفة عن الأجهزة العادية وتحتاج لغات برمجة متخصصة. إذا تخيلنا مثلا أن برمجة جهاز كمبيوتر عادى يشبه تدريب لاعب اسكواش مثلا، لأنك تعطيه التعليمات وترى أداءه ثم تعطيه نصائح لتصحيح الأخطاء، فإن برمجة أجهزة الكمبيوتر فائقة السرعة تشبه تدريب فريق كرة قدم كامل، لأنك تعطى تعليمات لعدة أشخاص وتراقب ليس فقط كل لاعب على حدة، ولكن كيفية تعاون اللاعبين فيما بينهم، وهذا أصعب، ونريد تدريب الطلاب عندنا فى الجامعات على هذه الطريقة فى التفكير والبرمجة والتى نسميها البرمجة بالتوازى أو (Parallel Computing).
...
أتمنى بعد هذا المقال أن نشعر بأهمية امتلاك وتطوير واستخدام تلك الأجهزة عندنا، وهناك خطوات يمكننا أن نخطها حتى لا يفوتنا قطار التكنولوجيا فى هذا المجال:
• ماذا عن محاولة العمل فى مشروعات بحثية مشتركة مع الدول التى تحتل مراكز متقدمة فى قائمة (Top 500) التى ذكرنها فى بداية المقال؟
• يجب أن نقوم بتحديث المواد التى يتم تدريسها والمتعلقة بتلك الأجهزة خاصة وأن هذا المجال يتطور كل عام وبالتالى يجب تحديث تلك المواد على الدوام خاصة طرق البرمجة المستخدمة فى تلك الأجهزة العملاقة.
• همسة فى أذن رجال الأعمال: هل يمكن التبرع وشراء جهاز من هذه الأجهزة حتى وإن كانت متوسطة السرعة لطلبة الجامعات حتى يتمكنوا من دراسة وسائل البرمجة الحديثة عليها؟ أو حتى التبرع للجامعات للاشتراك مع شركات مثل مايكروسوفت أو أمازون، هذه الشركات تتيح لمشتركيها استخدام أجهزة كمبيوتر عملاقة عن طريق الانترنت وبالتالى لن تكون هناك حاجة لشراء الجهاز نفسه فى الجامعة.
• همسة فى أذن رواد الأعمال: ماذا عن إنشاء شركة تعطى خدمات استشارية لتصميم برمجيات لتلك الأجهزة ليتم استخدامها فى مجالات عديدة كما ذكرنا فى أول المقال؟ وفى المستقبل القريب لتجميع تلك الأجهزة فى مصر.
أجهزة الكمبيوتر فائقة السرعة سلاح قوى فى أوقات الحروب وأداة عظيمة الفائدة فى أوقات السلم.